كلاشات اليوم ونقائض الأمس

طفت على سطح ساحتنا الثقافية والفنية خلال الأيام القليلة الماضية، ظاهرة تبادل الشتم والسب بين بعض الفاعلين في حقل الأغنية، في ما يسمى على الخصوص بفن الراب، وقد أطلقوا على ملاسناتهم اسم الكلاشات، وهي كلمة إنجليزية معناها الصراع والعراك.
وقد يحيلنا هذا الأسلوب في تفاعل هؤلاء في ما بينهم على ما كان سائدا في العصور القديمة، بين بعض الشعراء، حيث كانوا بدورهم قد كرسوا جزءا هاما من تجربتهم الشعرية لتبادل السب والشتم والهجاء في ما بينهم، ولعل أبرز وأشهر الأمثلة على ذلك ما كان يدور بين الشاعرين جرير والفرزدق، تحت مسمى النقائض، ومعناها ذلك الخلاف في القول الشعري الذي يكون بين شاعر وآخر.
نحن أمام مثالين: نقائض الفرزدق وجرير من جهة، وكلاشات توفيق حازب وغيره من فناني الراب من جهة أخرى، لكن شتان بين المثالين.
لنلق أولا نظرة على نموذج من النقائض، ونحاول أن نقارنه مع نموذج من الكلاشات، لكي نخرج بعد ذلك باستنتاج ما.
يقول جرير في رده على الفرزدق:
إني انصببت من السماء عليكم
حتى اختطفتك يا فرزدق من عل
إني إلى جبل تميم معقلي
ومحل بيتي في اليفاع الأطول
أحلامنا تزن الجبال رزانة
ويفوق جاهلنا فعال الأطول….

ويقول توفيق حازب في رده على زملائه في فن الراب:

آرا كاميرا واجقر طوموبيلا
جيب لينا غافيلا ولا باس علينا
لمخير ف الهاريبا كا تدور علينا
دارو مهزلة
ملي ما عطيت والو للراب
مالك غضبان
كتبات واخا تخبا
كيبان بلانها
سولو ماليها غا يشهدو فيها

إلى آخره..
****
إذا كان شعراء النقائض يقومون بتركيب الصورة الشعرية التي تتأسس على عمق فكري وشاعري بالأساس، مع انتقاء مفردات ذات دلالة، كونها تترجم إحساس الشاعر في سعيه نحو التعبير عن خلافه مع مخاطبه، مع مراعاة الذائقة الإبداعية والحرص على الارتقاء بالقول الشعري بشكل يدعو إلى تقدير هذه التجربة الشعرية واعتبارها تستحق التدوين والتأريخ لها.
إذا كان أحد شعراء النقائض وهو الفرزدق يعتبر قلع ضرس أهون عليه من قول بيت شعري، مما يعني قوة الاعتبار التي كانوا يولونها للقول الشعري.
إذا كان شعراء النقائض هذا هو حالهم، فإن شعراء الكلاشات ومن خلال النموذج الذي أثبتناه لصاحبه توفيق حازب، يعبرون عن سوء تقدير للإبداع الشعري في حد ذاته، باعتباره يسمو على الكلام العادي المبتذل؛ فكل مفردات الكلاشات مستقاة من قاموس أوكار الفساد، طبعا ليس عيبا أن نستلهم من هذه الأوكار بعض مفرداتها، لكن العيب كل العيب في طريقة توظيفها في نص شعري غنائي لأجل خلق صورة ذات حمولة إبداعية، غير أن ما سقط فيه أصحاب الكلاشات هو أنهم نقلوا تلك المفردات الوقحة وقدموها بشكل مباشر وفاضح إلى المتلقي، دون إخضاعها للتجربة الإبداعية التي تتأسس على التأمل والمعاناة والتفكير.
***
إن خطورة الكلاشات تتمثل بكل وضوح في أنها تقوم على تكريس الشقاق والخلاف بين شريحة من أفراد المجتمع، هم فنانو الراب، وقد يتسع ذلك ليشمل غيرهم؛ لنستحضر الشعارات التي بات يحملها جمهور المقابلات الرياضية والتي غالبا ما تؤدي إلى التخريب والعنف المادي.
أما الفن والإبداع الحقيقي، فشيء آخر تماما.

عبد العالي بركات

Related posts

Top