كيف حارب المغاربة الجرائم البشعة؟

لم تكن جريمة اختطاف واغتصاب وقتل الطفل عدنان بمدينة طنجة ليلة الجمعة 11 شتنبر 2020، حدثاً جديداً في المغرب أو فريداً من نوعه لم يحدث من قبل، وإنما عرف المجتمع المغربي جرائم بشعة وأحداث دموية مرعبة ووقائع أخلاقية في منتهى القذارة والاشمئزاز، وقد تعامل المغاربة مع تلك الجرائم القذرة، بشكل أكثر حزماً وصرامة ودون رأفة أو شفقة، إلى درجة تجعل المرء وهو يطّلع على كيفية تعامل السلطة المغربية والشعب مع تلك الجرائم، يشعر بالخوف والرعب؛ حيث حرق المعتدي أو تقطيع بعض أعضائه أو تعليق رأسه في مدخل الحي ليكون عبرة للآخرين.. وصور أخرى للعقاب كانت غريبة جداً.

باب الشريعة
في عدة مدن مغربية (فاس وتازة ..) أنشأ بعض سلاطين المغرب باباً تسمى “باب الشريعة” كان يتم فيها تنفيذ عقوبة الإعدام أمام الملأ، وتعليق رؤوس المجرمين على الباب، لتنهشها الطيور، وتبقى تلك الجماجم هناك شهوراً عديدة حتى تتحول إلى أشلاء مشوهة تتلاشى في الهواء أو تتساقط على الأرض..
كانت رؤوس المجرمين والطغاة تُعلّق بعد بترها أمام الملأ، في مداخل المدن المغربية، ولا يتم إزالتها بعد ذلك، مما يجعل الجماجم تتراكم في مشهد يجعل الناظر إليها يشعر بالرهبة ويرتدع من هول المنظر، وبهذه الطريقة حارب المغاربة الجرائم البشعة، واستطاعت السلطة الحاكمة أن تحافظ على زمام الأمور، ضد كل استهتار بأمن الشعب أو تهديد سلامته.

مجرم في قفص

وكانت في المغرب بعض العادات في إصدار العقوبات وردع كبار المنحرفين، منها عادة تقييد المجرمين بالسلاسل ووضعهم في قفص والطواف بهم في الأسواء والشوارع حتى يراهم الناس ويكونوا عبرة لمن سوّلت له نفسه الاعتداء على الغير.. قبل تنفيذ حكم الإعدام في حق هؤلاء الطغاة المفسدين، ويرتدع بهم كل من فكّر في الاعتداء على الغير، وقد استمرت هذه العادة إلى عهد قريب في فترة الاستعمار قبل أن تنقرض نهائياً بعد الاستقلال.
معركة الإعدام

وتطبيق حكم الإعدام أحياناً كان يأخذ صوراً غريبة يطبعها نوع من الاحتفال بردع المجرم، ففي مدينة فاس، في ساحة “باب المكينة” قرب القصر الملكي بالمشور السعيد بفاس الجديد، كانت تقام مصارعة الأسود مع المجرمين، ويحضر السلطان والوزراء وعامة الناس من ساكنة فاس، وهي آنذاك عاصمة المغرب، كما يحضرون من مناطق مجاورة، ليشهدوا مصارعة المجرم للأسد، فقد كان يتم تجويع الأسود عدة أيام، ثم إطلاقها في الساحة، وإخراج المجرم من القفص ووضعه وجها لوجه أمام الأسد الهائج، ليدخل معه في معركة إعدام لا شكّ فيها، ويشاهد المغاربة معركة البقاء للأقوى، وفي ذلك أقوى العبر والدروس، فالمجرم الذي يستأسد على الناس سيأكله الأسد أمام الناس.

لصوص الأسواق

وفي الأسواق المغربية وخاصة الأسواق الأسبوعية في المناطق القروية، كان الناس إذا ضبطوا لصاً أو سارقاً أو محتالاً، يصرخون بأعلى صوت، ويجتمع كل مَن في السوق، ينهالون بالعصي والهراوات على رأس اللص، فيكسرون عموده الفقري ويفقؤون عينه وتسيل دماؤه في السوق حتى يموت أمام الملأ، وترمى جثته للكلاب، وذلك ليكون عبرة لكل من حاول السرقة أو الاعتداء على الناس في أسواقهم، وقد كان لهذه العادة أثر كبير في محاربة الجريمة، فلم تكن الأسواق في حاجة للحارس الأمني، وكان الناس في أمن، يجعلهم يذهبون إلى المسجد لأداء الصلاة دون الحاجة لإغلاق محلاتهم التجارية، ونادراً ما تقع جريمة ما، فتبقى الأسواق شهوراً عديدة، ولا تسجل أي حالة سرقة أو نهب.

سجون الطغاة

وكانت في المغرب سجون للطغاة وعتاة المجرمين، تقع تحت الأرض وفي الأماكن النائية، لا يعرفها إلا أهل الحل والعقد، والداخل إلى تلك السجون مفقود لا يعود، بل كان يُرمى إلى قعر السجن من فوهة في السقف، ويُترك فيها، لا يُسأل عنه أو يُفتح له، ويظل هناك، لا يُعرَف مصيره، وكانت تلك السجون عميقة في الأرض على شكل دهاليز ومتاهات متعددة ومظلمة، لا أحد يعرف نهايتها أو طولها، (حبس قارة في مكناس مثلاً)، وقد كان يُرمى في تلك السجون المئات من الطغاة، وربما الآلاف، إلى غير رجعة، ويبدو أنَّ هذا الشكل الحازم والصارم في التعامل مع الجرائم البشعة له ما يبرره، لأن بعض المجرمين، لا علاج لهم إلا الموت، وبعضهم ينبغي أن يكون عبرة للآخرين، ثم إن حقوق الهالك بل حقوق المجتمع في الأمن والسلامة مقدّم على حق المجرم في الحياة، لأن مَنْ يحرم الآخرين الحياة، لا يستحق الحياة.

هندسة الإجرام

بعد سياسة الانفتاح التي نهجها المغرب منذ الاستقلال إلى الآن، وبعد توقيع المغرب لعدد من الاتفاقيات الدولية في مجال ما يُطلق عليه: “حقوق الإنسان” أصبح التعامل مع المجرمين يتم بشكل أقل صرامة مقارنة مع العهود السابقة، مما أسهم في انتشار الجريمة في المدن المغربية، بشكل لافت للانتباه، حتى اعتبرت بعض المدن المغربية عاصمة للإجرام وقضت بذلك على اقتصادها وخاصة السياحة والصناعة التقليدية فيها، بعدما كانت مدناً مزدهرة.
وتزايد عدد الجرائم التي تقع كل يوم، وشعر المغاربة بتهديد أمنهم، فانعكس هذا الإحساس بفقدان الأمن، على مجالات أخرى اجتماعية ونفسية، بل تأثرت الهندسة المعمارية أيضاً؛ حيث أصبحت نوافذ المنازل بشبابيك حديدية، والأبواب لم تعد تكتفي بمادة الخشب والزخرفة التقليدية فيها، بل أضيفت أبواب أخرى لمعظم الشقق والمنازل، من الحديد الصلب أو الفولاذ المتين، كما أن الشرفات (البلكون) أصبحت مسيجة بقفص حديدي مشوه وفاقد للجمالية، وشملت الحماية أيضاً أسطح المنازل فلم تعد السطوح نادياً للنساء يتبادلون فيه أخبارهم ويصنعون أطباقهم التقليدية، وإنما صارت مرتعاً للمجرمين ناهبي الزرابي والملابس والأطباق الهوائية وأجهزة التدفئة والأسلاك والحديد وكل ما يمكن أن يكون، يغيب في واضحة النهار أو حلكة الليل البهيم، ففقَدَ المغاربة جزءاً من ممتلكاتهم، أو لا يتصرفون فيه بالحرية التي اعتاد عليها أجدادهم في أزمنة الحياء والأخلاق واحترام الجيران، الشيء الذي شوّه بهذه الأبواب والأقفاص الحديدية المشهد الخارجي للمعمار المغربي.
ولم تتأثر بغياب الأمن وانتشار الجرائم الهندسة المعمارية للمنازل فقط، بل حتى بعض الأحياء والأزقة والشوارع أصبحت تئن تحت وطأة السياج المشوه للفضاء العام، وقد اضمحلت المساحات الخضراء والمنتزهات العامة، التي أصبحت مهجورة، بسبب انتشار الجريمة؛ فالمجرم يكسر كل مصابيح الإضاءة الليلية، ويخرب المقاعد ويعتدي على الأشجار، ويعبث بالممتلكات الفردية والجماعية، ويلوث المجال، إن الجرائم لا تهدد سلامة الإنسان فقط وإنما تهدد البيئة والطبيعة وتضع المغرب في أزمة اقتصادية واجتماعية ونفسية لا يُستهان بآثارها وتبعاتها في الحاضر والمستقبل.
الجريمة واللغة

واليوم بفعل التطور التكنولوجي أضافت العديد من الأسر كاميرات مراقبة، ولعل هذه الكاميرات قد كان لها دور مهم جداً في البحث عن مجرم طنجة الذي اختطف الطفل عدنان واغتصبه وقتله ثم دفن جثته ليخفي معالم جريمته البشعة، ولو كان المغاربة في عهد “باب الشريعة” لوضعوا هذا المجرم في قفص حديدي وطافوا به شوارع المدينة، قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه شنقاً أو تمزيقاً وحرقاً، وتعليق رأسه على باب المدينة أو الحي، لتنهشه الطيور وتدوسه الأرجل، فيكون عبرة لكل المجرمين، ولكن مضى عهد الردع بهذه الطريقة التي كانت تأتي أكلها في محاربة الجريمة، ولا حاجة للسجن الذي يكلّف الدولة أموالا طائلة ويجعل المجرم يسمن ويرتاح وينتظر فرصة الهرب أو العفو أو حتى انتهاء أمد العقوبة ليخرج للناس أقوى مما كان عليه، ويرتاع في الأرض فساداً وإجراماً، ولذلك تحتفظ الذاكرة المغربية وخاصة الشعبية ببعض المصطلحات التي تعود إلى هذه الحقبة الذهبية في محاربة الجرائم البشعة، ومنها مصطلح “التخربيق” الذي يعني “التخريب+التحريق”، ومصطلح “نصليك” الذي يعني “أحرقك”، وغير ذلك من الألفاظ في الدارجة المغربية التي تدل على الحزم والصرامة والقسوة في التعامل مع المجرمين الاستثنائيين، تلك الألفاظ التي تُصنف في خانة مصطلحات الشوارع وقاموس المنحرفين نظرا لما تشتمل عليه من خدش الحياء أحياناً، ولكنها كانت تدل على نوع العقوبة التي تلحق بالمجرم ويتم تطبيقها عليه وليس مجرد كلام للتهديد أو الإساءة مثلما هي وظيفتها اليوم. إن الذين يقومون بأعمال شنيعة مثل حالة الطفل عدنان في طنجة، يستحقون أسوأ معاملة، ليكونوا عبرة لباقي المجرمين الذين هم في حالة كمون ينتظرون فقط الفرصة للانقضاض على فرائسهم وترويع الآمنين.

الشرع والقانون

لقد كان حرص المغاربة كبيراً على تطبيق الحدود وتفعيل أحكام الشرع والقانون، في حق المجرمين القتلة، تنفيذاً لأمر الله واستجابة لما أمر به الحق تبارك وتعالى حتى لا يكون هناك ظلم أو فساد كبير، وتشير بعض الآيات إلى هذا المعنى، ومنها قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ، فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وكان السلطان المغربي يأمر بتطبيق أقصى العقوبات في حق أهل الحرابة الذين ينشرون الفزع والرعب وينهبون متاع الناس بالعنف والاعتداء والضرب والجرح وأحيانا بالقتل وتقطيع الجثث، ولذلك حرص السلطان المغربي على بناء أبراج المراقبة، ونشر الجنود في بعض الأماكن، وقد كان يرافق ركب الحج المغربي جنود لهم أسلحة، حماية لهم من قطاع الطرق. فماذا حدث للمغاربة اليوم؟

التطبيع مع الجريمة

إن اللامبالاة التي تطبع سلوك الناس في تعاملهم مع المجرم، وكثرة الأخبار الصادمة والجرائم القذرة، جعلت المجتمع يألف هذه الجرائم ويحدث له تطبيع نفسي معها، فيقبلها، بل أحياناً يتعاطف مع المجرم، ويبحث له عن مبررات تفسّر إقدامه على الجرم الخطير، كما صوّرت وسائل الإعلام المجرم ضحيةً وليس معتدياً، وأنه نتاج سياسة دولة وظروف عصر وحالات نفسية وعوامل قهر.. وغير ذلك من المبررات التي أسهمت في انتشار الجرائم البشعة وتكاثر الإجرام المروع، حتى أصبح من العسير الوقاية من هذه الأفعال الخطيرة، ويصعب القضاء عليها بالقوانين التي تعطي للمجرم حق الدفاع وحق الحياة بل حق الاستمتاع بالحياة في السجن المريح..

الطفل عدنان أفاض الكأس

لقد قصم حادث اختطاف واغتصاب وقتل الطفل عدنان، في مدينة طنجة، قصم ظهر البعير، وأفاض الكأس الممتلئ غضباً، فعبّر المجتمع المغربي بكل مكوناته، عن استيائه العميق ورفضه لهذه الجريمة، حيث طالب المجتمع بإعدام الجاني، والتعجيل بعقابه، وسالت دموع الكثيرين حقّاً وصدقاً، وتألم الناس قاطبةً في مغربِ كان رائداً في مكارم الأخلاق، وتدفَّقَ الحزنُ شعراً على ألسنة الشعراء، ومنهم ما قاله عبد الله المتقي: ” عدنان.. يا عدنان، طفولتي تنزف جرحا هذا الصباح.. وتعطلت لغة الكلام والكرامة”. وكتب مدير دار الشعر بتطوان الشاعر مخلص الصغير قائلا:
غَضَبٌ فِي عُيُونِ الْبِلاَدِ غَضَبْ، دَمْعُهَا حَارِقٌ وَابْنُهَا مُغْتَصَبْ.
محاولة للفهم

يتوقف العقل عن التفكير ويخرس اللسان عن الكلام، هي حالة والد الطفل عدنان، الذي لم يتمكن من الوقوف على قدميه من هول الصدمة، وشناعة الفعل الذي مورس على فلذة كبده، ومهما حاول الإنسان فهم الحدث لن يجد مبرراً عقلانياً لما وقع، وتبقى الدروس المستفادة أبلغ ما ينبغي الحرص عليه، لكي لا تتكرر مثل هذه الجرائم وأشباهها، ومن علامات التفاؤل أن المجرم في قبضة السلطة، وتحت أنظار العدالة لتقول كلمتها فيه، وحتى لا يتحول التفاؤل إلى حسرة وألم وخيبة، ينبغي أن تكون العدالة في مستوى الحدث، وأن ترى المجرم بعين القسوة لا الرحمة، فالجريمة هتك عرض شعب وطفولة وتاريخ وإساءة لدولة وتهديد لملايين الأطفال، خاصة مع بداية موسم دراسي جديد، ومع تزايد حالات وباء كوفيد19، لا تحتاج الطفولة المغربية خوفاً جديدًا من الراشدين جيراناً وغرباء ولا تحتاج أن تفقد المزيد من الثقة في محيطها، فظروف الحجر الصحي الطويل كانت لها عواقب نفسية لا يُستهان بها، حتى إذا خرج الأطفال للمدارس تحدث مثل هذه الجرائم البشعة، ولذلك لكل هذه الاعتبارات، ينتظر المغاربة صوت العدالة، وهي قطرة أخرى قد تفيض كأساً ما، وقد تضع الحد للبأس، وقد تخفف بعض الأسى.

إعادة التربية

وفي محاولة للفهم وللوقاية مستقبلا من هذه الجرائم البشعة، أرجع بعض المغاربة اللوم إلى التربية التي تبالغ في تقديس الآخر واحترام الغريب، حيث كتب المدرب والكوتش سعد التوزاني في صفحته على الفيس، كلاماً يستحق أن نختم به هذا المقال: “نحن المجرمون بالسماح للمجرمين بالعيش بيننا، باحترام المندسين بيننا وهم يرتدون لباس الوقار ويحملون ملامح البراءة. نحن لم ندرب أبناءنا على رفض الغرباء، نحن ربينا أبناءنا على تسمية الغرباء بصفة “عمي”. متى نتجاوز عقدة تقديس من هم أكبر منا سنا؟
متى نرفع من ثقة أبنائنا بأنفسهم حتى يدافعوا عن ذواتهم خارج مراقبة آبائهم؟
متى نستطيع التفريق بين الاحترام والحشمة والولاء؟
متى نسمح لبعضنا برفع الصوت تجاه الظلم والعدوان؟
متى سنفهم أن الاحترام لا يعني الخضوع والاستسلام؟

بقلم: خالد التوزاني

رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي–مساق-

Related posts

Top