لغة الشعر العربي اليوم

تواصلت ندوة “لغة الشعر العربي اليوم” التي أقيمت ضمن أنشطة الدورة الخريفية لموسم أصيلة الدولي الثقافي؛ بإلقاء ثلاثة عروض نقدية وفكرية لكل من الأساتذة محمد حجو وليندا نصار وعبد اللطيف الوراري، وتولى تأطير الندوة الشاعر ياسين عدنان الذي افتتحها بالقول إنها محاولة لتلمس خصوصية الشاعر في ذهابه الحر الفردي المرهف في اتجاه لغة تحسب له أكثر مما تحسب للغة، وتشكل في لغته وعبر كلماته أكثر مما تتشكل عبر العالم والمشترك الذي يغرف منه الشعراء.

محمد حجو: الخطاب اللغوي الشعري ساحة ملغومة

وتحدث الباحث الأكاديمي المغربي محمد حجو في مداخلته عن الغموض باعتباره يعكس تعدد الأبعاد في القصيدة، بشرط أن يكون فيها حضور فني خلاق، ذلك أن كل حضور فني خلاق يتسم بالغموض وأن هذا الغموض في حد ذاته له قيمة جمالية إيجابية.
وذكر أن الخطاب اللغوي الشعري ساحة ملغومة، وأن هناك نوعا من التهافت تحول إلى التقاط الكلام وبعض الصور وضمها إلى بعضها في كتاب رابط ناظم مولد للمعنى، قد يصل إلى حد الهذيان بمعناه القدحي حيث لا يرقى إلى الهذيان ببعده الفني الجمالي كما هو متعارف عليه في المقد الأدبي.
واستنتج المتدخل أن الذوق العام الناتج عن التخبط الثقافي للشعوب ساهم في إضعاف منظومة الغربال النقدي.
وأضاف أن لغة الشعر العربي اليوم في كثير مما يتداول تعاني من ضعف الملاءمة لما يتطلبه الشعر بلغته الغنية الولود، مرد ذلك إلى ضعف الثقافة والاطلاع المعرفي والتسرع في الإنجاز، مما ينعكس سلبا على اللغة وهي تشغل في محترف مصور لهذه اللغة في حد ذاتها.
وخلص إلى أن الشعر يحتاج من الشاعر إلى معجم غني وتمرس فكري واسع وليس إلى معرفة نحوية وصرفية ورغبة فقط.

ليندا نصار: الشاعر يكتب بلغة رمادية

وفي مداخلة الشاعرة اللبنانية ليندا نصار، أوضحت أن اللغة الشعرية الخالصة تتجه نحو الإنسان في رحابته وليس إلى بناء صورة فردية عن الذات بكل أشكال العاهات المتمركزة حول الأنا، ولكن هذه السيرة الذاتية تتطابق مع الشاعر في هذه الأرض باستمرار مع صوته الذي يتماهى مع كل أصوات المهمشين، إنها أصواتهم جميعا تلتقي فيها الذوات سواء فردية أو جماعية.
كما أشارت إلى أن الشاعر يكتب بلغة رمادية يلتقي في السواد بالبياض، ما دام بمثابة سيرة خاصة. وأضافت أن الشعر يمنح الذات عبر اللغة قدرة على إنتاج الأثر المفتوح لتثبيت التجربة الإنسانية وفتحها على العالم وتصير بذلك اللغة شكلا من أشكال مقاومة البشاعة التي تحيط بنا وتحويلها إلى لغة تسائل حضورنا الوجودي.
وأضافت أن الشاعر يفكر باللغة بوصفها إمكانية لفهم الذات وتعالقاتها بهوامش الواقع بحثا عن المجهول الجمالي الذي لا يدرك إلى برؤيا حالمة.

عبد اللطيف الوراري: لغة الشاعر الخاصة تدرك بالمكابدة وعبرها

وتساءل الباحث المغربي عبد اللطيف الوراري في مداخلته حول ما إذا كان ممكنا اليوم الحديث عن شعرية عربية متعددة اللغات واللهجات، أم أن اللغة أصل كل شعرية؟ وهل تطلب خصائص شعرية ما خارج اللغة، أو تتحقق بعيدا عن معاجمها؟ وبه، هل يمكننا اعتبار ما يكتبه المغاربة اليوم -على سبيل المثال- جزءا لا يتجزأ من الشعرية العربية المعاصرة؟ أم أن إنتاجنا الشعري المغربي تتوزعه شعريات متعددة: الشعرية العربية بالنسبة لمن يكتب بلغة الضاد، فيما يندرج الشعر المغربي المكتوب بالفرنسية ضمن أفق شعري مختلف. لكن، في هذه الحالة – يضيف المتدخل- ماذا عن القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة: أين سندرجها وضمن أيّ نسق؟ وماذا عن الشعر المكتوب باللغة الوطنية الأمازيغية؟ ثم ماذا حين نسمع شاعرا من قيمة محمود درويش يردد: “أنا لغتي” و”من لغتي ولدت”، ماذا يقصد بالضبط: اللغة العربية التي كتب بها دواوينه؟ أم لغته الشاعرة: تلك اللغة الفردية الخاصة التي يبدعها الشاعر من داخل اللغة المعيار؟ ثم ما الذي يعني الشاعر أساسا: اللغة باعتبارها مادة يشتغل بها ويبني من خلالها خطابه الشعري، تماما كما يستعملها السياسي لبناء حجاجه وإشهار مواقفه أو إضمارها؟ أم أن اللغة بالنسبة للشاعر هي موطن ومقام؟ مقصودة لذاتها وفي ذاتها، أي أنها ذاتية الغائية، “تجد غايتها داخلها” بتعبير تودوروف؟ أما الاشتغال عليها بجسارة وافتتان بغية تحرير الكلمات من دلالاتها القاموسية واستعمالاتها المعيارية فلعله من صميم المشروع الإبداعي لكل شاعر وكل تحرير للكلمات من أغلال المعاجم والقواميس، إنما هو جزء لا يتجزأ من مسعى الشاعر الحديث لإنجاز مهمته التي سبق لأرثر رامبو أن حددها في “العثور على لغة”. لكن الشاعر لا يعثر على لغته هكذا لقية في الطريق، ولا يجدها خارج ذاته وخارج اللغة ذاتها. إن لغة الشاعر الخاصة تدرك بالمكابدة وعبرها.
واعتبر المتدخل بعد ذلك أن أخطر واقعة جمالية، وبالنتيجة سياسية وثقافية، واجهت الشاعر العربي بعد ميلاد حركة الشعر الحديث في أواسط القرن العشرين، هو ما سمي بجدار اللغة. لم تكن المشكلة في حقيقة الأمر تتعلق ـ ظاهرياً- بـالازدواجية اللغوية، وإنما المشكلة تتعلق بدرجة أولى بحساسية اللغة الجديدة ونظامها الداخلي عبر ترميم المسافة الضرورية بين الكتابة والكلام حتى تتخلص من قواعديتها وتعكس وعيها الفني والنفسي في التعبير عن الذات والأشياء وروح العصر؛ أي أن تقترب لغة الشعر من الحياة وتقيم ـ في ـ العالم الجديد.
ابتداء من هذه اللحظة المفصلية وما صاحبها من سجال فكري وأخلاقي متعدد الأطراف (التاريخ، الدين، القومية) –يضيف المتدخل- يمكن لنا أن نتحدث عن مغامرة اللغة، حيث أخذ التجريب فيها منحى أكثر وعيا وتعقيدا، بعد سلسلة من القطائع المعزولة، التي بدأها جبران خليل جبران: لكم لغتكم ولي لغتي. ومن جهة أخرى، يمكن القول إن التفكير في اللغة انتقل من ورشة الجماعة التبشيرية والمسحورة بأساطير البعث والخلاص، في سياق المد القومي العربي، إلى ورشة الأفراد الذين تفرقوا أيادي سبأ، تبعا لتجاربهم في الحياة والكتابة، ومهاجرهم السحيقة في المرض والمنفى، والشعور بالاقتلاع والضياع؛ أي انتقلنا من فضاء الحداثة التواصلية التي تطالب اللغة بغايات خارجها أيديولوجيا وجماهيريا، إلى فضاء الحداثة البديلة التي اعتكفت على ما هو داخلي ومكبوت وهامشي، وقطعت مع المقدس ومع كل غائية إلا أن تكون اللغة نفسها غاية في حد ذاتها.
وعلى هذا الاعتبار، كانت كل صياغة نظرية تجريبية للغة الشعر، سواء في علاقتها بالتراث والأيديولوجيا والآخر، تعرض نفسها لامتحان قاس، وأحيانا لفشل ذريع، فيما كان الاستعمال اللغوي الذي يستولد مقترحاته النصية على محك التجربة الداخلية، بما تنطوي عليه من رؤيا وترميز وكشف ومفارقة وهدم وتشكيك، هو الذي أنقذ المسألة اللغوية من حساسيتها الأيديولوجية وفتحها عموديا على ممكنات الخطاب الشعري.
وتوقف عند مجموعة من التجارب الشعرية: الميتا شعرية، العرفانية، تجربة الحياة السيميولوجية، التجربة الأنثوية.. معتبرا أن تعدد هذه التجارب والتعبيرات يتيح فهم العلاقة باللغة المعاصرة.
كما تحدث عن المخاطر التي تهدد التجربة الشعرية المعاصرة، وحددها بالخصوص في التواصل الرقمي، والترجمة كيفما اتفق.

مبعوث بيان اليوم إلى أصيلة:  عبد العالي بركات

Related posts

Top