لغة مقاومة أخرى

لعب الملصق الفلسطيني، كسلاح ثقافي فاعل، دوراً توعويّاً وتحريضيّاً مع اندلاع الثورة الفلسطينية وانتفاضاتها الجماهيرية وظلَّ يقوم على جاذبية التعبير البصري وبلاغة الخطاب الأيقوني، وهو فن مؤثر يستقي ملامحه الأساسية من التحوُّلات السياسية والاجتماعية التي شهدتها فلسطين خلال العقود الأولى للقرن الماضي، وقد ظهر كفنٍّ نضاليٍّ أصبحت توظف فيه الكثير من العلامات والرموز المستمدة (تشكيليّاً وغرافيكيّاً) من ثقافة الصمود والتحدِّي.
وقد تبوأ الملصق الفلسطيني مكانة فنيّة وإعلامية استثنائية وصمد طويلاً أمام امتحان التاريخ كصورة ثابتة، وقد تزكَّى هذا الصمود وترسَّخ رغم الزحف التكنولوجي المرئي باعتبار أن الملصق الفلسطيني يحتوي على تعبيرية خاصّة تنطوي على رسالة بالغة التأثير. أليس الوسيط في نهاية الأمر هو الرسالة، كما يقول مارشال ماك لوهان M. Mc Luhan الذي يرى في مؤلفه “من أجل فهم الوسائط” أن الرسالة هي حجرة الزاوية في وسائط الاتصال الحديثة التي لا تنقل الحقائق قدر ما تبعث برسائل وتسعى إلى ترسيخها في أذهان الناس مهما كانت مقاومتهم (1).
من ثمَّ، أثبت الملصق الفلسطينيقدرته على الذيوع والشيوع والانتشار، وقد لعبت فيه الأصالة والصدق التعبيري، إضافة إلى الأسلوب الفني والجمالي دوراً أساسيّاً في تفرُّده وشعبيته.
وقد برز في ساحة الفن التشكيلي الفلسطيني فنانون مبدعون كثر من جيل الرواد والمخضرمين الذين أبدعوا كثيراً في إنتاج المطبوعة والملصق الفني بحس إستتيقي وتعبيري نادر، نذكر من بينهم -مثالاً لا حصراً- الأسماء المبدعة التالية: اسماعيل شموط، مصطفى الحلاج، عبد الرحمن المُزين، كمال بُلاطة، سليمان منصور، ناجي العلي، فائق الدحدوح، عدنان الشريف، تيسير البطنيجي، محمد المزيَّن، عبد المعطي أبو زيد، سمير سلامة، مؤيد الراوي، شفيق رضوان، حسني رضوان، عبد عايدي..وكذا غازي انعيم (فلسطيني/أردني)، فلاديمير تماري، ثمَّ جمال الأفغاني، إلى جانب مبدعين عرب كمحمد شبعة، محمد المليحي من المغرب، أحمد حجازي، حلمي التوني من مصر، يوسف عبدلكي، توفيق عبد العال، إميل منعم من لبنان، برهان قرقوتلي من سورية، حسيب الجاسم من العراق، وآخرين أجانب، أبرزهم ياسيك كوالسكي (بولندا)، ج. بارزيشيك (بولندا)، بيدرو ليبيرال (إسبانيا)، سيمون كوباني (هنغاريا)..وغيرهم كثير.

-1 تضامن عربي بلغة الفن

عربيّاً، ساهمت الظروف السياسية العصيبة التي مرَّ منها الوطن العربي في ظهور عدد هائل من الإبداعات التشكيلية المطبوعة والمصبوغة، تعبيرية ورمزية، التي أنجزها الفنانون العرب تعبيراً عن محنتهم الطويلة مع الاحتلال الأجنبي، وبخاصة فن الملصق السياسي -البوستر- الذي لم يبرز بشكل لافت للنظر سوى بعد أن ارتبط بالقضية الفلسطينية منذ خمسينيات القرن الماضي، إذ تحوَّل إلى سلاح ثقافي يستمد مادته الأولى من الواقع الفلسطيني المؤلم، ويعبِّر عن حالات التشرد والنكبة والحصار التي ترسم ملامح هذا الواقع..
يُذكر في هذا الإطار، أنه وخلال مجزرة تل الزعتر عام 1976، انتفض الفنانون العرب تضامناً مع أشقائهم الفلسطينيين، من ذلك مثالاً المبادرة التي قام بها الفنانون التشكيليون العراقيون حين اجتمعوا في العام المذكور في صالة العرض التابعة لجمعية الفنانين العراقيين للإعلان عن احتجاجاتهم وتضامنهم مع الشعب الفلسطيني بإنجاز ملصقات تعبيرية كبيرة الحجم تمَّ تقديمها في معرض تاريخي شهدته العاصمة بغداد. عقب ذلك بثلاث أعوام، نظموا تظاهرة فنية مماثلة احتجاجاً على زيارة أنور السادات للقدس، تمثلت في عرض ملصقات تضامنية مع فلسطين بمناسبة انعقاد القمة العربية في بغداد عام 1979. وفي العام نفسه، نظم المركز الثقافي العراقي بلندن معرضاً دوليّاً تحت شعار: “تواقيع تضامن مع فلسطين” قبل نقله لاحقاً إلى صالة الفن الحديث في بغداد وقد نجح في فتح جبهة نضالية جديدة ساعدت الفنانين العرب على التعريف بقضيتهم القومية المركزية. شارك في المعرض عدد هائل من الفنانين التشكيليين العرب والأجانب المتخصِّصين في فن الملصق، أبرزهم الفنان البولندي ياسيك كوالسكي J. Kowalski الذي نال الجائزة الأولى خلال هذا المعرض. إلى جانب فنانين عالميين آخرين اشتهروا بإنسانيتهم وتعاطفهم ومواقفهم النبيلة تجاه الفلسطينيين، والتي عبروا عنها من خلال مشاركاتهم الفعالة في معارض ومسابقات دولية خصصت لموضوع القضية الفلسطينية، منهم ماريان ناونيسكي وريجو كاليفي الذي اشتهر بتوظيف الصور الفوتوغرافية في إنجاز الملصقات، فضلا عن فرانز برونسار وكروز توماس وريجي كاليفي ستروم ويوتا دام فيدلر ولوتشيانو دي لييو وخوان مونوس ولاني سوميز وياكوب إيرول وتييري غيران ويانوتش هيبدا وسيمون كوباني..دون نسيان الإشارة إلى الفنان البريطاني روبيرت بانكسي R. Banksy (1974) رسام الغرافيتي المشهور وأحد أهم فناني الألفية الثالثة، تعاطف مع القضية الفلسطينية ورسم عدَّة رسومات على جدار العار الفاصل بين فلسطين وإسرائيل واشتهر بموقفه الصريح من الحرب والسلطة.

-2 عروسان على الحدود

عن تاريخ أول ملصق فلسطيني، يذكر الفنان والباحث والكاتب العربي الأمريكي “فائق عويس” صاحب مجلّد “موسوعة الفنانين الأمريكيين العرب” والذي أعدَّ دراسة عن فن الملصقات، “أن أول ملصق سياسي فلسطيني ظهر منتصف الثلاثينات وكان يعبّر عن وحدة الشّعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال البريطاني والمخطّطات الصّهيونيّة ويظهر بعض الرّموز، منها الهلال والصليب الأحمر تعبيراً عن وحدتهما..”.
ويذكر باحثون آخرون أن الملصق الفلسطيني بدأ رسميّاً مع ظهور لوحة “عروسان على الحدود” (1962) للفنان الراحل إسماعيل شموط أحد رواد الحركة التشكيلية بفلسطين، وقد لعب، كسلاح ثقافي فاعل، دوراً توعويّاً وتحريضيّاً مع اندلاع الثورة الفلسطينية وانتفاضاتها الجماهيرية وكان يقوم على جاذبية التعبير البصري وبلاغة الخطاب الأيقوني.
هكذا، ومنذ النكبة عام 1948 وإلى غاية عام 1965، تميَّز الملصق الفلسطيني بحشد وافر من الرموز والدلالات الأيقونية التي تُعَبِّرُ عن الاحتلال والغربة والطرد من الوطن واللجوء. واعتبرت هذه الفترة (في حدود عام 1967) بمثابة البداية الحقيقية للملصق الثوري الفلسطيني، إذ تضمَّنَ تعبيرات رمزية كثيرة كالنار والديك والحصان والحمامة والشمس والقدس والشهيد والمخيم والأسلاك الشائكة وشارة النصر وسنبلة القمح..إلخ.
وبعد معركة الكرامة، شقَّ الملصق الفلسطيني طريقاً جديداً ونهج أسلوباً نوعيّاً، إذ أصبحت توظف فيه عديد من العلامات والرموز المستمدة من ثقافة الصمود والتحدِّي، كالكوفية والرشاش والفدائي وقبَّة الصخرة والعلم الفلسطيني والحمام وغصن الزيتون إلى غير ذلك من المفردات الرمزية التي يتخذها المقاومون والفدائيون الفلسطينيون رمزاً للثورة والنضال..
عقب ذلك، وامتداداً لغاية منتصف السبعينات وما بعدها، اهتم فنانو الملصق بالجانب التشكيلي وأمسىت صياغة الملصق الفلسطيني تضمُّ تعبيرات إيحائية أخرى أفرزتها المرحلة، كالعبوات والزجاجات الحارقة (المولوتوف) (2) والحجارة التي أعطت وأيقظت جيلاً استثنائيّاً من الفلسطينيين أطلق عليه اسم “أطفال الحجارة”، وفي ما بعد سيتأثر الملصق الفلسطيني بكثير من التحوُّلات والأحداث السياسية التي ألقت بظلالها وظلامها على القضية الفلسطينية دوليّاً وعربيّاً، أبرزها حرب الخليج ومؤتمر مدريد عام 1991 حول السلام بين العرب وإسرائيل وغير ذلك من الظروف التي استوحى منها الفنانون الكثير من العناصر والمكوِّنات الفنية والتشكيلية في إبداع الملصقات، كما هو الحال في أعمال مصطفى الحلاج التي تؤرِّخ أيضاً لبداية ظهور الملصق الفلسطيني، قبل أن تبرز تجربة الفنان عبد الرحمن المزين الذي يعتبر رائداً في مجال إنجاز الملصقات وبخاصة تلك التي تتسم بكثير من الرمزية إلى جانب أسماء أخرى كزكريا شريف، جمال الأبطح، أمين عريشة، خيرالله شيخ سليم، عبد المعطي أبو زيد، هشاممنصور، جهاد منصور، زهدي العدوي، محمود خليلي، عماد عبدالوهاب،عبد الرحمن مرضعة، محمد المزين وغيرهم. لكن منذ عام 1971،وبعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ازداد الاهتمام بإنتاج الملصقات حيث نظم عقب ذلك بأربع سنوات أول معرض لفن الملصق (الأفيش)، وقد ضمَّ الكثير من النماذج التي عالجت موضوع الهوية والذات العربية والتراث القومي والأرض والثورة بأهم عناوينها..كما أنه مع ازدياد حركة التنظيمات الفلسطينية وبروز تجمعات مدنية عملت على إشاعة هذه القضية والدفاع عنها، ظهرت في بيروت ملصقات جميلة من تصميم وضاح فارس اعتمد فيها على أعمال للفنانين كاظم حيدر ومحمد غني حكمت وضياء العزاوي(3) .

-3 الملصق الفلسطيني، فنٌّ نضاليٌّ

قام الملصق الفلسطيني على القضية الفلسطينية التي شكلت الهمَّ الأول لكل الفنانين والمبدعين الذين ناضلوا في سبيلها، وقد اكتسى، وبالتحديد الملصق السياسي، أهمية قصوى في الفن الفلسطيني الحديث والمعاصر،لاسيما عقباندلاعالثورة الفلسطينية المسلحة، وهو يستقي ملامحه الأساسية من التحوُّلات السياسية والاجتماعية التي شهدتها فلسطين منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وقد ظهر كَفَنٍّ نِضَالِيٍّ -وقد منحت له هذه الصفة خصوصاً بعد عقد الندوة الشهيرة التي تلت معرض الملصقات المقام قبل سنوات بجامعة بيروت العربية- تجسيداً لتيمات مختلفة عاكسة لصمود ونضال الشعب الفلسطيني عبر العصور.. وما عاناه ويعانيه من مضايقات وممارسات استعمارية وحشية لا إنسانية وصلت إلى حدود الفاجع، ليقدم شهادة حيَّة على أن أبناء هذا الشعب قد قاسوا الكثير، ولكنهم لا يزالون قادرين على البذل والتضحية رغم كل ما يكابدونه من كل أشكال الحصار والتضييق المؤلمين. إضافة إلى ممارسات أخرى ظل المستعمِر (ولا يزال) ينهجها سبيلاً في طمس وتشتيت كل المعالم الدينية والحضارية المميزة للشخصية الفلسطينية..
ورغم قلَّة إنتاج الملصق المعبِّر عن الانتفاضة، إلاَّ أنه ساهم في خلق الوعي الثوري بهذا الحدث المهم لسرعة انتشاره وقوَّة تأثيره، ويكون قد حقق هدفه عندما يبعث صورة الانفعال والحرارة، لذا يجب أن تتحوَّل مضامينه لتخاطب جميع الفئات وبكل اللغات”، كما يقول الفنان والباحث الفلسطيني الراحل عبد الكريم السيد.
لقد نما الملصق الفلسطيني وتطوَّر لاحقاً مع بداية الحرب على قطاع غزة وانتشر داخل الساحات والفضاءات العمومية، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي وارتبط ظهور الجديد والانتقالي مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.
والملاحظ أنه في التجربة الفنية الفلسطينية، أمسى توظيف الرمز في الملصقات الفلسطينية مرتبطاً بولقع وظروف الاحتلال واغتصاب الأرض. فهو إبداعٌ فنيٌّ صادقٌ يرسم دروب آلام الشعب الفلسطيني وسندٌ دعائيٌّ وتحريضيٌّ لأنماط النضال الوطني داخل فلسطين وفي مناطق الغربة والاغتراب العربية والعالمية.
هذا السند الجمالي ذو الطبيعة الأيقونية مليء -في أكثر من شكل وصيغة- بعديد من الرسائل والرموز التعبيرية المنسوجة من محن وأوجاع الشعب والوطن، من قبيل: الفدائي، الكوفية، غصن الزيتون، الشمس، القمر، البندقية، الغزال، الماء، الأشجار..فضلاً عن التطاريز المميّزة للباس المحلي والزخارف النباتية Florales وغيرها من المفردات والرموز والدلالات الأصيلة المعبِّرة عن الذات والهوية والوطن.
لقد جعلت هذه الرموز الملصق الفلسطيني فنّاً مقاوماً منتصراً لقضية فلسطين وإبداعاً تشكيليّاً وغرافيكيّاً ومن عمقه تنبعث رسائل كثيرة بمعانٍ عميقة ساكنة في وجداننا القومي المجروح، ومجسِّدة حالات إنسانية ومواقف نبيلة ممتدة للنضالات والتضحيات الجسام التي رسمتها قوافل الشهداء في مسيرة التحرير والعودة وتأكيد الكينونة والوجود. ومن عمقه أيضاً، نستشف قدرة الفنان الملتزم على الانخراط في المسار الكفاحي الفلسطيني بإبداعات فنية راقية منفَّذة بأساليب وتقنيات صادقة وفاضحة لمؤامرات ودسائس عنصرية وحاقدة ساعية إلى القضاء على فلسطين المسلوبة وإنهاء وجودها كشعب وكهوية.
والأكيد أن الملصق السياسي الفلسطيني استطاع أن يلعب دوراً أساسيّاً في تحريض الجماهير العربية وأن يجسِّد أشكال النضال الفلسطيني عبر مراحله المتنوِّعة إلى الوطن العربي والعالم من خلال تعبير جمالي صادق ورصد حيٍّ وحقيقيٍّ للأحداث تاركاً أثره في وجدان كل المساندين والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية وأن يستقطب عدداً كبيراً من الفنانين من أقطار مختلفة ليرسموا للثورة الفلسطينية ويمجِّدوا أبطال الانتفاضة الشعبية..

هوامش وإحالات:

-1 للقراءة والاستزادة:
‏M. Mc Luhan: Pour comprendre les médias- Trad. Paris (J.)- Ed. Mame- Seuil. Tours-Paris ,1968.
-2 نسبة إلى فاياشسلاف مولوتوف، وهي من الأسلحة التي تصنع منزليّاً.  
-3 ضياء العزاوي: لون يجمع البصر/ نصوص وحوارات في الفن التشكيلي- منشورات تاتش، المملكة المتحدة- أكتوبر 2001 (ص. 94).

* ناقد تشكيلي

بقلم: ابراهيم الحَيْسن *

Related posts

Top