لــو يـعـلـمـون

غالباً، عند استقبالنا للرسائل/ المسجات الآتية عبر أجهزتنا الخلوية أو بريدنا الإلكتروني، نقوم بقراءتها بسرعة لنلتقط المعنى المباشر فنردّ عليها، أو نؤجِّل ذلك إلى وقت آخر. لكننا نادراً ما نتمهَّل تاركين لأنفسنا فرصة تأمل كيفية صياغتها واستبطان تعدد المعاني المحمولة فيها.
كأنني بهذه المقدمة أساوي بين نصوص تلك الرسائل/ المسجات والنصوص الأدبية، أو بعضها بالأحرى، المتصفة بالتركيب، التي اعتدنا النظر إليها كونها “حَمَّالَة أوجُه”.
لم أقصد هذا بالضبط، إلّا أنني أقترب من ذلك، بمعنى أني أحاول قراءة الخلفية الثقافية والاجتماعية – والقِيَميَّة تحديداً – للشخصية البانية لتلك الرسائل، بكلماتها المختارة عن وعي وبالصِيَغ الكتابية الضافرة لها. عند إجرائنا لهذا الضرب من القراءة إنما نكون، في الحقيقة، نمارسُ تحققاً في الأوجه المتعددة لمحمول الرسائل.
فأن نقرأ، بمناسبة عيد ما من الأعياد، رسائل مثل: “كل سنة وأنتم سالمون. أعاده الله عليكم بالخير والبركات.”، أو “أنتهز مناسبة العيد لأتقدّم بخالص الأمنيات الطيبة لك وللعائلة الكريمة.” إلى آخره، فإننا فور قراءتنا لها تقفز إلى ذاكرتنا ما اعتدنا أن نسمعه مباشرةً من الأصدقاء والمعارف، قبل تحولنا لهذه الأجهزة المختصرة لكثير من “واجبات” اجتماعية تمليها الأعياد، فباتت تنوب عنّا بإيصال المعنى.
ما المعنى تحديداً لرسائل كهذه؟
أوليسَ هو أن يتمنّى الواحدُ مِنّا للآخر الخيرَ، والسلام، وطمأنينة القلب، وراحة النفس، ودوام الصحة والعافية، إلى آخره؟
هذا مُجْمَل المعاني المباشرة. أما ما هو أعمق من ذلك؛ فإنه: الحرص على إدامة أواصر المحبّة والتآزر بين الناس، بصرف النظر عن اختلاف المعتقد الديني، بما يعزز تماسك المجتمع بكافة مكوناته.
أكتب هذا وثمّة تساؤل جارح، ومؤذٍ جداً، أجدني مضطراً لأن أطرحه على كلّ مَن أخذ يجتهد ويفتي بـ”تحريم” معايدة غير المسلم، وأنَّه “من غير الجائز” هذا، تماماً مثلما بتنا نسمع فتاوى شبيهة كـ”تحريم” إطلاق دعوات “الرحمة” على مَن يموتون من غير المسلمين.
إنّ مَن “يُحَرِّم ولا يجيز” تمنيات الخير والسلام بدافع المحبّة؛ لا يعدو أن يكون داعيةً للشرّ، والتطاحن، والكراهية.
وإنّ مَن “يُحَرِّم ولا يجيز” الترحُّم على الموتى من خلائق الله، ليس سوى كاره للرحمة تنزل على غير جماعة معتقده، بل وأخطر: هو الواهم بأنه واهب الرحمة، وليس الله وحده، وبصفته الأولى التي يكررها (هذا الضرب من الدعاة) مئات المرّات كل يوم دون أن يعوا عمقها الأعمق: “بسم الله الرحمن الرحيم.”، وأنه (بحسب معتقد المسيحيين في صلواتهم): جزيلُ الرحمة.
سأورد هنا بعض مما وصلني من رسائل معايدة احتفظت بها ذاكرة جهازي الخلوي (عند مراجعتها بعد احتلالها لمساحة كبيرة منها وقبل حذفها)، ومن أصدقاء مسلمين، متسائلاً إنْ كانوا (بحسب أمثال هؤلاء الدُعاة) قد خرجوا عن دينهم وباتوا في دائرة الشُبهة.
“كل عام وأنتم بخير وعِزّ وسعد.”
“في عيد الميلاد المجيد أتمنى لك ولأسرتك الكريمة دوام الصحة والسعادة، وأن يمد في عمرك، وكل عام وأنتم جميعاً بخير.”
“ميلاد سعيد وسنة جديدة طيبة، مع المحبّة.”
“أسعدَ اللهُ قلوباً إنْ وصلناها شَكَرَت، وإنْ قَصّرنا عَذَرَت. دامت مودتكم للأبد، وكل عام وأنتم بخير.”
“كل عام أنتم والعائلة بألف خير.”
والآن، عند تأملنا بالرسائل، وبكلماتها، وبالصِيَغ الضافرة لها، نقع على أعماقها الثقافية والاجتماعية – والقيمية – على الأخصّ: إنها القِيَم ما نحمل في جوهر إنسانيتنا. وإنها، في الوقت نفسه، القيمة التي نتحلّى بها.
أما الرحمة والمحبّة؛ فمن صِفات الله.. لو يعلمون!
فليتشبهوا بذلك.. لو يقدرون!

> بقلم: إلياس فركوح

Top