لكن منا كل التقدير والاحترام

لم تتمكن لبؤات الأطلس من التتويج كبطلات للقارة الإفريقية لكرة القدم، بعد خسارتهن أول أمس السبت، أمام منتخب جنوب أفريقيا في المباراة النهائية، لكأس الأمم الإفريقية.
كانت الخسارة على المستوى الرقمي فقط، لأن ما تحقق يعد بالشيء الكثير، بل يصنف بالمدهش وغير المسبوق، مادامت المكاسب كثيرة ولا تقدر بثمن.
خرجت بنات المغرب من هذا الحدث القاري مرفوعات الراس، بطلات حقيقيات، بعد أن تحولن في ظرف قياسي، إلى رمز للتحدي وتجاوز الأحكام المسبقة والنظرة الدونية، ما مكنهن من نيل كل عبارات الثناء والإعجاب والاحترام.
صحيح أنهن خسرن اللقب، لكن ربحنا حب وتقدير واحترام الملايين من المغاربة الذين تعلقوا بمكونات هذا المنتخب، ساندوه بدون حساب، بل جعلوه مثالا يحتدى للفتيات والشابات الطموحات والرغبات في ركوب التحدي، وتأكيد المكانة الحقيقية للمرأة باعتبارها نصف المجتمع.
لم يكن من السهل أن يترك الآلاف من المواطنات والمواطنين، جمالية الشواطىء، في عز ارتفاع قياسي لدرجات الحرارة هذه الأيام، كما لم يغريهم النسيم الذي تجود به الغابات وظلال الأشجار، لم يفضلوا في أحسن الأحوال متابعة المباريات من القاعات المكيفة، بل فضل الجميع، أطفالا، شيبا وشبابا نساء ورجال، الحج نحو مركب الرباط للحضور بساعات قبل موعد المباراة، حضور وازن حطم كل الأرقام، ولفت انتباه كل القنوات ومختلف وسائط الاتصال عبر العالم.
الآلاف لم يكترثوا للحرارة المفرطة، والمشي على الأقدام عبر مختلف الطرق المؤدية الى الملعب، لأن الهدف كان غاليا، وحد كل الفئات، من أجل القيام بالواجب المتمثل في دعم ومساندة لاعبات منتخب كرة القدم في مشهد غير مسبوق، انخرط فيه بكل تلقائية النساء والرجال، مباركة لفعل رياضي بأبعاد ثقافية ودلالات عميقة، وتعميقا لخيار المساواة.
كان الربح كبيرا واللاعبات يكرسن على أرض الواقع وبشهادة كل المراقبين عبر كل بقاع العالم، التغيير العميق الذي يعرفه المجتمع المغربي، وذلك بتمكين المرأة من كسب المكانة التي تستحقها، وإحداث نقلة نوعية داخل مكونات المجتمع وإعطائها مكانة محترمة، وبالفعل نجحت اللاعبات في تحقيق الرهان، بعد أن حملت القضية على أكتافهن، وتمكن من عبور مسار شائك، كان إلى حدود الأمس القريب مستحيلا، وصعبا حتى على التصور.
فالرياضة ركن أساسي داخل منظومة الحق في التعامل المنصف وكسب الحقوق، خاصة على مستوى كرة القدم بحكم شعبيتها الجارفة، وتأثيرها الكبير على مختلف الشرائح.
فقد ظلت كرة القدم ولعقود حكرا على الرجل، إلى أن جاءت المرأة لتقاسمه مساحات الإبداع والتألق، بعدما كان الإصرار على فرض المساواة حاسما، ليضطر الرجل إلى الجلوس بدوره بالمدرجات قصد مساندة نون النسوة، وهن يبدعن فوق المستطيل الأخضر، لأن التغيير الحقيقي يكمن في النظرة العامة والتعامل والقبول بالأمر الواقع، وظهر ذلك بوضوح بعد أن أصبح الرجل يأخذ مكانه مبكرا داخل الملاعب والقاعات، يتحمل هو الآخر عناء التنقل من أجل التمتع بتقنيات فتيات في مقتبل العمر، يقدمن فرجة ممتعة، بلمسة أنثوية ساحرة، أضفت جمالية أكثر على اللعبة كانت تصنف بالخشنة، لم تعد تغري بالمشاهدة الكثير من الأوساط، بحكم سيطرة الخطط والانغلاق في الأداء وحضور ضغط التكتيكات الجامدة.
إلى أن جاءت المرأة بلمستها الساحرة، ولطافة حركاتها وعفويتها، وتلقائية أدائها لتمنح كرة القدم لمسة فنية أعادت الشغف والمتعة المفقودة لهذه الرياضة، لتعيد لها التوازن المفقود، وحولتها واجهة لتكريس المساواة والإنصاف داخل مجتمع ذكوري.
صحيح أن حضور المرأة كان دائما لافتا في العديد من الأنواع الرياضية الأخرى، وفي كل المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومختلف الوظائف والمهن، لكن لكرة القدم سحر خاص، وتأثير لا يضاهى، والدليل على ذلك أن كرة القدم، هي الفعل الوحيد القادر على جلب اهتمام الملايين عبر العالم، فعل مرتبط بمشاعر الناس، ومجال يعبر فيه الإنسان عن فخر الانتماء للوطن، يفرح للانتصار ، يبكي للهزيمة ويتحسر لضياع الفرص، يتحمل المشاق من أجل الحضور، حتى ولو تطلب الأمر السفر بعيدا، وتحمل مختلف التكاليف.
إنها ثورة حقيقية غيرت الكثير من الأحكام الجاهزة والنظرة الضيقة، وأصبحت العائلات والأسر المغربية، تتخلى تدريجيا عن المبالغة في التحفظ وعدم الانفتاح على رياضة معينة، كانت دائما مجالا لسيطرة النظرة الذكورية وطغيان رواسب الماضي، ليقتنع الجميع في الأخير على أن المرأة لها كل الحق في أخذ مكانتها، ولعب دورها كفاعل أساسي وكنصف المجتمع.
انتصرت إذن صديقات العميدة غزلان الشباك، في كسب الرهان، بتكريس خيار المساواة ومبدإ تكافؤ الفرص، كما ساهمت في إحداث تغيير عميق، بعد أن أظهرت الوجه الإيجابي للرياضة بصفتها مدرسة للحياة.
شكرا لكن على كل اللحظات الممتعة التي قدمتموها بسخاء، شكرا على الدروس البليغة التي سطرتموها بمداد الفخر والاعتزاز ، أظهرتن الوجه المشرق لمجتمع مغربي، طامح لكل ما هو جميل وعزيز، رغم عديد الإكرهات وكثير المعاناة ومظاهر الخصاص، إلا أن هناك تفاؤلا بغد أفضل، وتشبثا بقدسية الحياة.

>محمد الروحلي

Related posts

Top