لنفكر في عمق الأشياء…

البوليميك المتطاير هذه الأيام عبر مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص حملات مقاطعة منتجات غذائية معينة أو مقاولات بعينها، والاتهامات المتبادلة بين الأطراف الداعية والمساندة للمقاطعة أو الأخرى الرافضة لها والمناهضة، كل هذا يحث تفكيرنا الجماعي على طرح الأسئلة وإعادة التذكير ببعض القضايا المركزية بلا صبيانية قول أو تصريحات الدرجة الصفر في السياسة وفي المسؤولية.
أولا، الدعوة لمقاطعة منتجات أو شركات هذا شكل احتجاجي قديم ومعروف في العالم كله، وأوساط سياسية ونقابية ومدنية جربته منذ عشرات السنين وفي بلدان متعددة، ومن ثم ليس هناك معنى لبعض ردود الفعل المتعصبة كما لو أن الأمر تم اختراعه أمس أو عندنا نحن هنا فقط.
ثانيا، يمكن في إطار تحليل وقائع السياسة والسعي لفهم المواقف والخلفيات البحث كذلك في الجهة الداعية وفي الخلفية والغاية والأهداف، كل هذا عادي ومطلوب، ولكن ليس هو الأكثر أهمية، خاصة أن التعبئة تجري في عالم اليوم عبر مواقع الأنترنيت، وضمن ايقاعات زمن آخر لا علاقة له بالأزمنة التي مضت من حيث سرعته وأفقيته، ولهذا يبقى أن الأكثر أهمية اليوم هو صياغة قراءة وفهم موضوعيين وهادئين لنبض شعبنا، ولدلالة ما يتطلع إليه.
ثالثا، لما تتسارع الردود المتشنجة والغاضبة، ولا يرى البعض في الاحتجاج، مهما كان افتراضيا، سوى”لعبا” ليس هذا ميدانه، أو أنه من فعل “مداويخ”، أو أن مساندته والانخراط فيه هو بمثابة “خيانة للوطن” أو تعدي على المقاولات الوطنية والاقتصاد الوطني، أو دفع نحو “الفتنة” في البلاد حتى، فكل هذا يلخص “دوخة” حقيقية فضحت طبائع شخصيات سياسية واقتصادية وعرت عقلياتهم وضعفهم، وأيضا افتقارهم إلى… النضج.
إن التلويح اليوم بتعبير”المداويخ” جعل الكلمة تتحول لدى من صرح بها من موقف تهكمي كان يتبناه في السابق ردا على من قال بهذا التعبير أول مرة، إلى استثمار لدلالته وتبنيها اليوم، وذلك من دون أي مبالاة للتناقض الصارخ بين الأمس واليوم.
ومن يضع مقاطعة منتجات، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف، في مرتبة خيانة الوطن، هو في حاجة ل”الترابي”، كما يفهمها المغاربة الأذكياء.
رابعا، وبرغم كل الكلام المزاجي المنفعل والغاضب، فلا أحد يستطيع أن ينكر اليوم وجود وضعية اجتماعية صعبة تتطلب الكلام الصريح والواضح، وتقتضي قرارات وبرامج وسياسات و… أفعال.
نعم هناك مشكلة في القدرة الشرائية الضعيفة لفئات واسعة من شعبنا، وهناك اتساع لمستويات الفقر…
نعم هناك غلاء…
نعم هناك فوارق اجتماعية ومجالية، وهناك انعدام العدالة بين الفئات وبين الجهات…
نعم هناك ضعف في أسس دولة القانون في الحقل الاقتصادي وفي عالم المقاولات والمال والأعمال، وهناك تداخل بين وضعيات سياسية وإدارية ومصالح تجارية واقتصادية في سير عدد من الفاعلين ومدبري شأننا العمومي…
نعم، المغاربة لما يتواجدون في بلدان مجاورة لنا لا يمنعون أنفسهم من مقارنة الأسعار ومستوى الخدمات هنا وهناك، وهم أيضا لا يمكن أن يغفلوا وجود مناطق معروفة في بلادنا تمنح الوطن ثروات طبيعية هي لا تستفيد لا منها ولا من مداخيلها، وتستمر تعاني من وضعية غارقة في البؤس والحاجة والحرمان.
خامسا، لقد قلنا هنا ولمرات عديدة بأن البرلمان مثلا يجب أن يكون هو الفضاء المركزي الحاضن للحوار السياسي الوطني والعمومي حول مختلف مشكلاتنا التنموية والديموقراطية، ونبهنا إلى أنه في غياب ذلك ستبرز ميادين أخرى تجذب حراكات شعبنا واحتجاجات شبابنا، وقد يقود ذلك الى ممارسات لا تسهم في أي تقدم للإصلاحات أو تطور للمسارات التنموية والديموقراطية ببلادنا.
أين هو إذن مجلس المنافسة، الذي يعتبر، بموجب دستور 2011، مؤسسة دستورية من كامل هذا السجال الذي يتموقع في عمق اختصاصاته ذات الصلة بتنظيم المنافسة وتطبيق القانون وحماية القدرة الشرائية للناس وتطوير كامل المنظومة الوطنية للتجارة؟ 
كيف انتهى مسار لجنة الاستطلاع البرلمانية حول أسعار المحروقات، ولماذا تعرض مصيرها لما تعرض إليه؟ ولماذا لم يجر التفكير في تأطير الحوار حول هذا الملف داخل المؤسسة التشريعية بدل أن يصير متطايرا اليوم على صفحات الفايسبوك؟
سادسا، كل ما سلف يبرز وجود قلق حقيقي وسط شعبنا، وخصوصا فئاته الفقيرة والمتوسطة، حول الوضعية الاجتماعية وتقهقر قدرته الشرائية ومستوى عيشه وغلاء كثير من المواد والخدمات وضعف جودتها، كما أن قلقا فعليا وضعف وضوح للمستقبل والأفق يبدو جليا لدى العديد من الأوساط الاقتصادية والمقاولاتية.
وبدهي أن هذه الإشكاليات الحقيقية التي يقر بها الكثيرون تقتضي اليوم الوعي بها أولا واستيعاب خطورتها، ثم بلورة وتفعيل تفكير جماعي يستحضر مصلحة بلادنا ومستقبلها، ويقوم على ضرورة ضخ دينامية عامة جديدة في الحقل الاقتصادي والاجتماعي، وأيضا في الحقل السياسي الديموقراطي، أي أن يحس المغاربة بوجود تحرك عام وشامل للاهتمام بالمسألة الاجتماعية والتنموية وتحسين ظروف عيش الفئات الفقيرة والمتوسطة، وأن يتقوى الإنفتاح الديموقراطي ليلادنا وتترسخ سرعة أكبر في زمنية الإصلاحات الجوهرية المرتبطة بحياة الناس ومحاربة الفساد والريع، وتمتين أسس دولة القانون والمؤسسات في المجالات السياسية والاقتصادية.
وكل هذا، كما هو واضح، هو عمق النموذج التنموي الجديد الذي دعا جلالة الملك إلى التفكير في بنائه، وهذا النموذج التنموي لا يمكن إطلاقا الشروع في صياغته وإعماله من دون استحضار الانشغالات الاجتماعية والتنموية والديموقراطية لشعبنا، أي بالضبط ما يتم التعبير عنه اليوم ومنذ فترة، وبطرق شتى في مناطق مختلفة وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، وليس بصم الآذان، واعتبار كل ذلك مجرد مؤامرات بخلفيات حزبوية ضيقة، أو أن الأمر ليس سوى”لعبا” أو من فعل”مداويخ”، أو تهديد الكل باعتبار الأمر”خيانة” للوطن…
الرجوع لله أيها السادة…
لنفكر في عمق الأشياء وما يعاني منه شعبنا بلا تنطع في التصريحات والأجوبة المزاجية التي لا يجوز لمسؤول دولة، مهما كانت الظروف، أن يتورط في اقترافها.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top