لو كان غيرك ما كان

…..
لو كان غيرك ما كان
قال :
لا تخبريني عن الأحزان يا شهرزاد.. فما زالت الحكاية في بدايتها، ومازال عقد العقيق يتشبث بجيدك.
– هل تذكرين تلك السنوات الست حين كان القمر يتوضأ بنور وجهك؟ فيحكي المساء حكايتنا على مسامع الليل، وكيف استعارت تلك النجوم كومة ضحكات من على أعتاب ثغرك؟
لا تستقبلي العذاب بالعناد سيدتي، ولا تسألي قارئة الفنحان، ولا تسمعي ثرثرتها عن الغياب،
فالرحيل يا جميلتي، ليس خاتماً من الزمرد، تنتزعه مني ومنك الأيام، حتى وإن كانت الأحزان تصافح الدموع، فتلثمنا بالحب والأمل، ودعي شاردات الأفكار، وامتطي صهوة السفر معي، فقلبي يا سيدتي مجنون توضأ من خابية ذاك الليل وتطيب، وامتد بالصلوات بعيدا، ليكن لك وطنا في جعبته سلة أنفال.
اسألي نفسك يا سيدتي لم المسافات… !!
لقد سألتها عشرات المرات، في مرحلة خطيرة من اللاشيء، ولم تجبني وإن ما يقلقني أكثر، أني الآن ضجر جدا كما لم أكن من قبل، وإني على وشك الانهيار، تعتريني نوبة حادة من البكاء، وهذهِ الثغرة القاتلة في حياتي، أهملتها منذ ردحٍ طويل الأمد، نعم كنت قد أهملتها ورحلت ..فلما عدت، وهذا شعور لا يطاق ولا ينتهي، وأنت لا أنت يا سيدتي ولا حتى أنا، فلا أنت تستطيعين البقاء وحدك، ولا حتى أنا وحدي، ويستمر العالم في دورانهِ، وتستمر قلوبنا في الحيرة بكل هدوء وسكينة، تدغدغ طرقاتها الخطى، وكل القطارات تعرف وجهتها، وتعود، وأنا وأنت لا نعود، والسماء تحفظ تقويمها، والأشجار، والطيور، والكل هناك يكيل الزمن، بالقسطاس المستقيم، وأنا وأنتَ فُرادى، أحبة أعداء، لا وقت عندنا للحياة، لا شيء يجمعنا غير المهاترات، ولا شيء يغلبَ عنادنا، لا الحزن، لا الأرق، لا الغياب… لاشيء ….
لا موت أحلامي، ولا موت حضورك، حتى قيام الساعة.
فعلا كان علي أن أتجاوز فكرة انتظارك المؤسفة، وأقف وقفة حداد على أحلامي، وأمضي قُدماً في نسيانك، وأعود إلى نفسي، وروحي، وذاتي، وذكرياتي، دون أن أحدثهم عن حياتي السابقة عنك، وأحدثهم عنك أنت، عما مضى، وعما تركت، لكنهُ الحب يا سيدتي، بنسخته الشرقية بحزني وغيابك .
بعثراتي التي حذّروني منها مراراً وتكراراً، ولم أتعظ، بجنوني وسوء ظنوني، وأحزاني التي تجري في عروقي الآن، بنسختي الجديدة، بوجع فوق وجعي، يعرف جيداً ما يريده، في خطوتهِ القادمة.
ولأني يا سيدتي، ذالك الشرقي، فأنا ألملم شمل اللحظات، كي لا تغربي عن ربيع الذكريات، فحرام على سكنى الآماق، أن يرشق غيابك بالقهر، وأنت التي تنام بين النبض والنبض، ولا يحق لغيرك أن يجري في الوريد، حتى لو كان غيرك ما كان ..
جبن يا سيدتي أن تمشي حافية القدمين فوق قلبي، خوفاً من صرير الغياب، فمن كفك يا مجنونتي، يستمد الورد شذاه، ومن أفق الخزاما تتورد وجنتاك، إذا ما ردد النهار اسمك على مسامع المساء.. لتتجلى في عينيك منارة كلما وقفت على عتباتك روحي، لتتأمل ملامحك، ونظرات العيون، كلما فر الزمن حاملا ضحكاتك وكل الشجون .
لو كان غيرك ما كان، فقط لماذا لا نستطيع آن نعيد لحظة من ذاك الزمان؟ ولماذا يغدر بنا العمر، وتغادرنا السنون بلا آمان؟
بالله كيف تنفلت اللحظة، وكيف يتجمد الموقد، ويصبح الدفء مسجونا بغيابك، في كل مكان؟
غالبًا ما تخوننا أقدامنا في اختيار المقاسات المناسبة، وتقودنا في الطريق الخطأ، وحين نقرر العودة نكون قد فقدنا قدرتنا على السير قدما، لنعود أدراجنا إلى الخلف، نتجمد في أماكننا، وننتظر ربما لا لشيء نرتضي رغم جفاف الرمق، وننعي الحب والحلم حتى لا نشعر يومًا، أننا ننتمي إلينا وجُدران قلوبنا مائلة، لا أمان بها ولا إيواء.
فليتني سنونو لأهاجر إليك كلما اشتقت لك، وكلما نامت في كف يدي ملامحك، لأظل كأسطورة أو حفنة من أقحوان، يضم إلى صدره صورة، وقلما وألما، وليت عمري العتيق ينتشلني من واقعي، لألقاني حلماً بين الجفون..
بغيابك سليلة الروح، لا قبر للقمر الفضي، والشمس كل يوم فوق الرُخام تنوح، وتشقّ القمح وتعاند الزمن، ووجعي أشلاء تغطي السماء، تعاند الضباب المنهك، لترميه حول الضواحي، عسى الطيور الجريحة تلقاه ..
اللحظات تُقرع وتُقرع، الضحكات ترتعش، إنه إيقاع الوجع يا سادة، والتربة من دمعٍ وحزن وفراق، ورداء الحلم من ذاك الليل الداكن، وصوت الأمل شجي، كنفخ الناي على دموع النهر، وآلاف اللحظات البنفسجية، ماتت جوعاً في البراري، وهذا الغضب في مجرى الدمع تائه ولا موسيقى في الغيم، الحظ الكستنائي نام في البئر، ووحل الآهات بات طحلبا فوق صدر الأيام، وأنت سيدتي، أنثى من البنفسج والخمر، الورد جفنها ويدها حمام وروحها كنجمة الله الضوئية، كل ملائكة السماء تنام فيها.
لو كان غيرك ما كان حقا، آلهة من الحب والجمال هو شعوري وحلمي قُبلة دمٍ فوق قدميك وعيناك شامتان بنيتان تغطيان التهاب الوقت، من لمسات الريح الساخنة، ولا موسيقى في الغيم، حتى وإن عاندت الشمس الزمن، والتوليب قُتِل في البحر.
لتظل تلك الأشجار المخملية تخبئ أحلامنا، من عيون الطواويس الفارغة، والحادة، وذاك الدُخان الأعمى يصعد ويصعد، تطربه ولولات الأوقات الميتة وأنا وأنت وذاك القمر الفضي، لن يتحول لقبرٍ عاجي لتدفن به الأمنيات مهما كان، وحدك أنت من هذا العمر العميق والباقي ذكريات.

بقلم: هند بومديان

الوسوم , , ,

Related posts

Top