مآلات “الأسرة” في ظل العولمة

أثر الإعلام الهادف والمدروس على حركة ووعي الشعوب، حتى أصبحت الكرة الأرضية كقرية كونية تعيش تغيرات وتحولات بفعل نظام العولمة.

هذا المفهوم المتطور – الذي هدف إلى تغيير منظومة القيم الثقافية والاجتماعية والعادات والتقاليد الموروثة التي تميز الشعوب عن بعضها، وٱخترقت المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء، كما غيرت جانبا مهما لا يمكن إهماله ألا وهو الأسرة -.. هذا المفهوم المقدس لحقت به تغيرات وتطورات أدت إلى إكسابه صبغة جديدة ذات قيم جديدة جاءت في محل القيم القديمة التقليدية التي تعرضت للذوبان بسبب صهرها من طرف آليات العولمة، هذا النمط الجديد من الأسرة يطلق عليه اسم الأسرة المعولمة .

 فما هي الأسرة المعولمة؟ وما هي أوجه الاختلاف بين الأسرة القديمة والأسرة المعولمة؟ وما تأثيرها على الكيان المجتمعي؟

 يمكن تعريف الأسرة على أنها نواة المجتمع، فهي المدرسة التي يخلقها أب وأم قررا القران والارتباط والعيش بجانب أولادهما الذين يعتبرون شمعة تضئ حياة الأسرة في كل أنحاء المعمورة، ولابد أن لهذا المفهوم ارتباطات بمفاهيم وقيم أخرى كالتربية، المحبة والاحترام.. هذه الركائز تؤسس لمفهوم الأسرة وتضمن استقرارها واستمراريتها ولم شملها.

ولاشك أن نظام العولمة أظهر لنا أسرة جديدة تسمى الأسرة المعولمة والتي يمكن تعريفها على أنها نمط أسري جديد ظهر بعد سيادة النموذج الغربي في العالم النامي، لها خصائص ومميزات تميزها عن الأسرة التقليدية التي كانت تتميز بخصوصية ثقافية واجتماعية متفردة على عكس الأسرة المعولمة التي تتميز بالأحادية والكونية، أحادية لأنها نموذج أسري غربي توسع إلى ما وراء البحار وأذاب الخصوصية القومية لكل الدول، أسسه وخصائصه موحدة لا تختلف من مجتمع إلى آخر، هدفها توحيد العالم في وعاء متجانس، أما الكونية فتتجلى في تعميم هذا النوع من الأسرة الذي وصل إلى كل بيوت العالم بفضل امبراطوريات الإعلام والتكنولوجيا التي تجعل النموذج الغربي نموذجا يحتذى به .

 التغيرات التي أتت بها الأسرة المعولمة هي تشجيع ثقافة الانعزال حيث ينعزل الإخوة عن بعضهم البعض والآباء كذلك، كل فرد يعتكف في غرفته متقوقعا على ذاته وفي نفس الوقت يدخل في ترابط تام مع العالم الافتراضي كمواقع التواصل الاجتماعي لانجذابه نحو المواد الترفيهية وأفلام الأكشن والمغامرات وقصص الحب والعاطفة والإثارة .

كما أنها تتميز أيضا بتشجيع الاستهلاك، كل الأفراد يستهلكون بإفراط وبدون وعي كل السلع والبضائع لأنه تكونت لديهم ثقافة الاستهلاك المفرط واحتقار العمل اليدوي التقليدي والادخار، هذه القيم التي أقحمتها الرأسمالية الجشعة غايتها الربح بشتى الوسائل.

ولابد أن نشير إلى أن دور الأب قد تقلص وأصبح أكثر ميوعا وأقل وضوحا، على سبيل المثال الأب تحول دوره من الحامي للأسرة والمدافع عنها والمربي لأولاده إلى عضو يهتم فقط بتوفير المأكل والمشرب والملبس ومواد الترفيه، وعدم غيرته على أهل بيته والسماح لقيامهم بالعلاقات خارج إطار الزواج والمساكنة .

هكذا أصبح دور الأب  ماديا وملموسا لا علاقة له بالروحانيات، وهذا له تأثير سلبي على حياة الأطفال.. إذ أنه في غياب مراقبة الأب وتتبعه، يصبح الأطفال أكثر عرضة للانحراف وتعاطي المخدرات..الخ. أما دور الأم فيقتصر فقط على الطهي والاهتمام فقط بموضة اللباس والتجميل لأنها أصبحت تهتم بالمظاهر وكل ما تصرح به مواقع التواصل الاجتماعي، وكل ما هو شكلي وتزييف للواقع .

والمثير للدهشة أن المرأة بعد الولادة تتخلى عن حضانة أبنائها حيث تصرف مبالغ مالية  على دور التربية والحضانة من أجل أن تقوم بتربية وحضانة ابنها أو ابنتها، وهذا هو الخطير في الأمر أي أن غياب تربية الأم وحضانتها ينعكس بشكل سلبي على الطفل، حيث ستتم تربيته على أيادي غريبة عن أهله، وستنعدم في هذه العلاقة بين الطفل ومربيته الغريبة عنه تلك اللمسة الحنونة التي تضفيها الأم على أولادها، وهذا إنما يدل على تنامي ظاهرة الخمول الاجتماعي التي اكتسحت مجتمعاتنا مؤخرا، بسبب التخلي عن القيم الموروثة كقيمة تحمل المسؤولية وقيمة التضحية ونكران الذات… فالأم لم تعد تريد أن تطبخ أو تطهي الطعام لأسرتها وتقوم بأشغال البيت، لأنها تعودت على استهلاك الجاهز والمحضر فورا، وهذه العادة السيئة نمت وتربت لدى الأم حتى سيطرت على أغلب كيانها حتى أنها لا تقدر على العيش بدون الجاهز، كما أن بعض النساء يتوجهن إلى رعاية أطفال التبني بدل الإنجاب وهذه الظواهر غايتها الحقيقية ليست هي تحرر الإنسان وخدمته بقدرما تكون غايتها هي تفكيك لأسرة، لأن تدمير مجتمع معين واحتواءه في وعاء معين والسير به دون إرادته والتلاعب به وفق المصالح الشخصية يكون أولا بتدمير الأسرة، لأن هذه الأخيرة هي نواة المجتمع التي تشكله وتكونه وتحتويه ويحتويها.

من هنا يظهر الانحلال الاجتماعي والثقافي في المجتمعات كافة خاصة المجتمعات التقليدية التي تقلد دوما السلوك الغربي بمختلف تناقضاته وآفاته.. ونذكر هنا على سبيل المثال آفة الزواج المدني الذي يعتبر بحق تخريبا للأواصر المجتمعية، هذا الزواج يعتبر عقدا بين شخصين يسجل لدى كاتب بالعدل أو محافظة ..الخ، والخطورة فيه أنه قد يكون بين رجلين أو امرأتين أو شخص مع حيوانه على سبيل المثال، (امرأة تزوجت بقطها أو رجل تزوج بحيوانه أو امرأة تزوجت بمنزل أو معلمة تاريخية)، وقد تم تمرير هذا النوع من الزواج إلى المجتمع تحت ذريعة الحرية الإنسانية إلا أنها تضرب عرض الحائط كرامة هذه الإنسانية والمجتمع كافة.

كما ظهرت أيضا ظاهرة وضع المسنين في دور العجزة من أجل التخلص من مصاريفهم والتحرر من المسؤولية الملقاة على عاتق الأبناء تجاه أبائهم، وهذا ما يبرز بشكل دقيق جدا ظاهرة عقوق الوالدين التي أصبحت موضة في المجتمعات كافة.. وهذا ما تنهي عنه كل الأديان وتنهى عنه القيم الإنسانية.. إلا أن هذه الظاهرة تم تمريرها أيضا إلى المجتمع تحت ذريعة العيش الانفرادي والتحرر رغم أن وجود الآباء رفقة الأبناء مع بعضهم البعض لا يلغي من حرية الأبناء ولا ينقص من كرامتهم بالعكس التكفل بالآباء أثناء كبرهم هو شرف كبير لا يعلوه شرف، وهذا ما حث عليه ديننا الإسلامي في القرآن والسنة.

إن أهداف الغرب من الأسرة المعولمة هو خلق كيانات تابعة لتغيير ديموغرافية العالم وتذويب الثقافات والخصوصيات وانصهار المجتمعات في بوثقة العولمة، والمثير للسخرية أحيانا وللاستياء أحيانا أخرى هو أن نموذج الأسرة المعولمة ما هو إلا تدمير لقدوة الأسرة تحت ذريعة الحرية الإنسانية والعيش الحر، وكما سبق أن أشرت فالنموذج الأسري يسعى إلى تدمير الأسرة القوية وتفكيكها من جهة وتفكيك المجتمع من جهة أخرى .

ما يهمني في هذه الورقة هو الإدلاء برأيي المتواضع بخصوص بعض الهجمات التي تتعرض لها الأسرة التقليدية والتي تعتبر في نظري أفضل نموذج أسري لما تحتويه من قيم وأخلاق وفضائل وأفعال حسنة، تشجع العيش المشترك ويلعب فيها الأب والأم دورهما الحقيقي كفاعلين أساسيين في الأسرة خاصة وفي المجتمع عامة، ويتم تربية الأبناء على أيدي الأم والأب تربية سليمة متسمة بالأخلاق والفضائل والقيم.. وبالتالي فعلى المؤسسات التعليمية بمختلف مسالكها والجهات المسؤولة والمنظمات الحكومية والغير حكومية والجمعيات أن تعمل على تحسيس المجتمعات بهذه التغييرات الغير محسوسة والتي يتفاعل معها المجتمع بكثرة دون الوعي بها، كما أن تعمل على تشجيع النموذج الأسري التقليدي لأنه الوحيد الذي يتماشى مع أخلاقيات مجتمعنا وسيساعد على تنشئة أجيال صاعدة تهتم بالعلم والتعلم والابتكار والعطاء والعمل من أجل المجتمع والوطن .

    بقلم: يوسف أسونا

Related posts

Top