مؤتمر “أنفا” بالمغرب .. حدث تاريخي غيّر مصير العديد من شعوب العالم

بعد مرور ستة وسبعين سنة عن انعقاده، ما يزال مؤتمر أنفا، الذي احتضنته الدار البيضاء ما بين 14 و24 يناير من العام 1943، محتفظا بأهميته كمحطة مفصلية، كان للمغرب فيها دور رئيسي، وغيرت مجرى التاريخ المعاصر للعديد من شعوب العالم، خاصة منها البلدان التي كانت ترزح تحت الاستعمار بمختلف أشكاله.
ففي هذا المؤتمر، الذي جمع الرئيس الأمريكي آنذاك فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والجنرال الفرنسي شارل ديغول وبطل التحرير جلالة المغفور له محمد الخامس، جرى التوافق بين الحلفاء بشأن السيناريوهات المختلفة لتحقيق النصر في الحرب، وإجبار دول المحور على الاستسلام دون شروط.
وقد استطاع المغرب، بفضل الحضور القوي لجلالة المعفور له محمد الخامس، أن يطرح قضية استقلال المغرب أمام قادة الحلفاء (الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى وفرنسا)، واقتراح انضمام المملكة إلى معاهدة حلف الأطلسي، ومن تم تأكيد أهميتها الاستراتيجية، رغم خضوعها لنظام الحماية الذي كان مفروضا عليها في تلك الفترة، وإسهامها في وضع أسس نظام عالمي جديد لما بعد الحرب العالمية الثانية.

ضغط سياسي على فرنسا

قدمت الولايات المتحدة حينها، دعما كبيرا للشعوب الراغبة في ذلك الوقت في الانعتاق من الاستعمار، في إطار معاهدة حلف الأطلسي (1941)، حيث حدد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت المبادئ الكونية الواسعة التي يريد الدفاع عنها.
واغتنم جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه فرصة احتضان المغرب لهذا المؤتمر لمناقشة قضية استقلال المملكة، ومطالبها المشروعة مع الرئيس روزفلت الذي عبر عن تأييده لهذه المطالب، ودعمه لنضاله من أجل الاستقلال، وهو الذي كان مصمما على تنفيذ بنود معاهدة حلف الأطلسي المصادق عليها من طرف الحلفاء سنة 1941، والتي ارتكزت على الخصوص على الدفاع عن الحرية وعن إستقلال الشعوب.
ففي هذا المؤتمر، استقبل جلالة المغفور له محمد الخامس، من طرف فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، كممثل لشعب حليف وصديق يحتل بلده مكانة هامة في استراتيجية التحالف الغربي، وفي تكريس المثل العليا للسلام والحرية عبر العالم، والتي ساهمت في وضع حد لمآسي الحرب العالمية الثانية.
وتولى الرئيس الأمريكي مهمة الإعلان عن القرارات الهامة التي اتخذت في المؤتمر يوم 12 فبراير 1943 في خطاب إذاعي، مشيرا إلى أن المؤتمر سيكون بداية مسار لتحقيق السلم والأمن وبداية جديدة في تاريخ الإنسانية المعاصر.
وبالمقابل، عبر الرئيس الأمريكي روزفلت عن تأييده لمطالب المغرب ووصف طموحه باستعادة حريته بالمعقول وأن مكافأة الحلفاء واجب، وما إن حلت السنة الموالية لانعقاد مؤتمر أنفا حتى هيأت نخبة من الوطنيين عريضة ضمنوها المطالب الأساسية المتمثلة في استقلال البلاد، وذلك بتشجيع وتزكية من بطل التحرير جلالة المغفور له محمد الخامس الذي كان يشير عليهم بما يقتضيه نظره من إضافات وتعديلات، وانتقاء الشخصيات التي ستكلف بتقديمها مع مراعاة تمثيل جميع الشرائح الاجتماعية وكل المناطق لتكون لجميع المغاربة بصمتهم في هذا الحدث المهم في تاريخ البلاد.
وشكل ذلك الوعد ضغطا سياسيا على فرنسا، ورسالة إيجابية للحركة الوطنية المغربية بنهاية الاستعمار الفرنسي، وثانيها إبراز الأهمية الاستراتيجية للمغرب، وتحول مدينة الدار البيضاء إلى مدينة عالمية اتخذت فيها قرارات سياسية كبيرة رسمت ملامح مرحلة دولية جديدة.
وتأتي أهمية هذا المؤتمر من خلال كونه شكل وقتئذ انطلاقة مرحلة جديدة في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وخطوة محورية في تاريخ الحركة النضالية المغربية نحو استقلال المملكة المغربية من الاستعمار الفرنسي.
كما كان فرصة مواتية بالنسبة للقادة المشاركين فيه لتحديد الإجراءات السياسية والعسكرية للحلفاء توجت بتوقيع العديد من الاتفاقيات من أجل إخضاع كل من ألمانيا واليابان دون شروط، واعتماد إدارة مشتركة لجميع القوات الفرنسية في الحرب من قبل الجنرالين جيرو وديغول.
أما بالنسبة للحركة الوطنية وقائدها جلالة المغفور له محمد الخامس، فقد شكل مؤتمر آنفا فرصة لطرح القضية الوطنية الأولى، خاصة وأن المملكة، ورغم أنها كانت ترزح تحت الحماية، أعربت منذ نشوب الحرب العالمية الثانية في شتنبر من سنة 1939 عن اصطفافها إلى جانب الحلفاء في مواجهة القوات النازية والفاشية.

نقلة نوعية في مسار الحركة الوطنية

وبهذا الخصوص، أبرز أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب عين الشق محمد معروف الدفالي أن السياق العام الذي انعقد فيه المؤتمر هو سياق الحرب العالمية الثانية التي كان المغرب مشاركا فيها بموجب رسالة سلطانية تليت بالمساجد، إلى جانب دخول دول المحور للتراب الفرنسي، ونزول جيوش الحلفاء بالمغرب، مع ما سبقها من مراسلات بين أمريكا والمغرب.
وكان المؤرخان الأمريكيان، جوزيف ماديسون عن القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا ” أفريكوم”، وباترك براون عن الحرس الوطني لولاية أوتاه، قد أكدا، في لقاء احتضنته الدار البيضاء في نونبر 2017 في إطار الأنشطة المنظمة بمناسبة الذكرى 75 للإنزال الأمريكي بالمغرب في شهر نونبر سنة 1942، أن هذه العملية، التي أطلق عليها اسم “عملية الشعلة/ طورش”، شكلت عملا استراتيجيا مفصليا في مواجهة ألمانيا النازية، وتجسيدا لقناعة الرئيس فرانكلين روزفلت، بعد دخول بلاده معترك هذه الحرب، أن المغرب يشكل مجالا مهما في سياسة الدفاع الأمريكية، بحكم موقعه الإستراتيجي الهام .
وأضاف معروف، في حديث لوكالة المغرب العربي بهذا الخصوص، أن المؤتمر جاء في إطار مجموعة من المؤتمرات بعدد من بلدان العالم التي خصصت لمناقشة مجريات الحرب العالمية واستراتيجيات إنهائها، مشيرا إلى أن المغاربة عقدوا آمالا كبيرة على مشاركة المغرب في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء وحضور السلطان محمد الخامس طيب الله ثراه مؤتمر أنفا.
المؤتمر، برأيه، شكل نقلة نوعية في مسار الحركة الوطنية، خاصة وأنه لأول مرة يتم طرح قضية استقلال المغرب، ومحاورة ولقاء قادة العالم حينها دون وسيط ما عد حينذاك اعترافا ضمنيا باستقلال المغرب، وذلك استنادا للمبادئ التي جاء بها ميثاق الحلف الأطلسي الذي أقر حق الشعوب في تقرير مصيرها.
وقال إنه مباشرة بعد المؤتمر، الذي استقبل فيه جلالة المغفور له محمد الخامس كسلطان وصديق وحليف للحلفاء، تم تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في العام الموالي، وكان لجلالته دور كبير في رفع هذه الوثيقة.
وبالنسبة إليه، فقد كانت هذه المحطة التاريخية نقطة تحول مفصلي في مسار الحركة الوطنية، التي كانت تعتمد فيما قبل إستراتيجية إصلاحية في أفق الاستقلال، لكن بعد مؤتمر أنفا جرى تنسيق قوي بين السلطان والحركة الوطنية وتشكلت قناعة بضرورة المطالبة بالاستقلال لتصبح شعارا للحركة الوطنية منذ 1944، وكان هناك إجماع وطني واضح بين مختلف قوى الحركة الوطنية وبكل مناطق المغرب.
وأكد أنه لحد الآن ما يزال المؤتمر يحتفظ بأهميته لجميع الأطراف التي شاركت فيها، إذ يعتبره الأمريكيون محطة قوية لتكريس التعاون بين الحلفاء في حين ترى فيه بريطانيا تجسيدا للتحالف القوي بين الدول المتطلعة للديمقراطية والسلم.
وهو ما أبرزه جيمس روزفلت، حفيد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، خلال مشاركته في إحياء ذكرى مرور 70 سنة عن انعقاد المؤتمر، أن أمريكا تعتبر هذا المؤتمر التاريخي علامة فارقة في تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية، ومناسبة لإظهار موقع المملكة في العلاقات الدولية حينذاك رغم أنها كانت ترزح تحت نير الاستعمار.
وفي الاتجاه ذاته، أكد سفير بريطانيا لدى المغرب توماس رايلي بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لمؤتمر أنفا بمبادرة من السفارتين الأمريكية والبريطانية أن هذا المؤتمر شكل محطة حاسمة في تاريخ الحرب العالمية الثانية، التي لعب فيها المغرب دورا رئيسيا، معتبرا أن مؤتمر انفا يرمز الى التحالف المستمر بين بريطانيا والمغرب، داعيا في هذا الاطار الى تعزيز العلاقات بين البلدين .
وبالنسبة للمغرب، يؤكد أستاذ التاريخ المعاصر، فالأهمية تكمن في أن قرارات هامة في تاريخ الإنسانية وغيرت اتجاهات القوى عبر العالم خرجت من قلب مدينة الدار البيضاء.
فمؤتمر أنفا، كمحطة من تاريخ المغرب المعاصر وعلامة فارقة في الذاكرة الجماعية ليس فقط بالنسبة للمغاربة، بل لشعوب العالم أجمع، يعكس الثوابت التي قامت عليها المملكة المغربية كدولة تعمل من أجل الحرية والديمقراطية والسلم العالمي.

Related posts

Top