مؤتمر الانتصارات…

أجمع أغلب المراقبين والمحللين لشأننا السياسي الوطني على أن المؤتمر الوطني العاشر لحزب التقدم والاشتراكية، الذي اختتم أشغاله صباح أول أمس الأحد ببوزنيقة، خالف كل ما روج بشأنه من قبل، ولم يشهد أي انغلاقات أو احتباسات في سير جلساته، أو توترات كبيرة، وإنما أنهى كامل جدول أعماله في هدوء، وخلص إلى المصادقة على مختلف وثائقه وتشكيل هيئاته التنظيمية بكامل الانسيابية والامتثال للشرط الديموقراطي الداخلي، وكل هذا يسائل اليوم من كان ينشر الأوهام والتخيلات والتدوينات المتهافته و”التحليلات”المعلقة في السماء…
ماذا تقولون إذن اليوم؟ هل تعترفون بخطأ الرؤية والتقدير؟ هل تعتذرون لقرائكم؟
على كل حال، كان لزاما فقط تسجيل هذه النقطة هنا مع أنها ليست ذات قيمة، ولكن هي تلفت انتباهنا إلى حاجتنا كلنا لمتابعة معرفية وعلمية وجدية لممارستنا الحزبية والسياسية من طرف مختصين ومحللين وأكاديميين وصحفيين يمتلكون الصدقية والفهم والموضوعية والرصانة.
المؤتمر الوطني العاشر لحزب التقدم والاشتراكية برغم هدوء سيره العام أو كونه لم تتخلله أخبار المشادات والتوتر والحاملة للدهشة الإعلامية والإبهار الفرجوي المبتذل، فهو لم يكن، في الآن نفسه، مؤتمرا باردا أو مجرد لقاء تنشيطي، وإنما عرف مناقشات عميقة داخل اللجان الموضوعاتية وفي الجلسات العامة، شملت مواضيع سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية وحزبية وتنظيمية، أي أنها تطرقت إلى مختلف الإشكالات ذات الصلة والارتباط بالأنساق القيمية والفكرية العامة التي يناضل ضمنها ومن أجلها اليسار الاشتراكي التقدمي.
يعرف عن حزب التقدم والاشتراكية مذ كان وفاءه للمكتوب، وحرصه الدائم على إنتاج مواقفه ومقارباته بدقة، وصياغة أدبيات تكون محكمة التركيب والمضمون والمنهجية والتحليل، ولا تشوبها أي عشوائية أو خفة قول.
وانطلاقا من كل هذا، يجب اعتبار مصادقة المؤتمر على الوثيقة المتضمنة للأطروحة السياسية والبرنامج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي بمثابة مؤشر أول على انتصار التقدميات والتقدميين المغاربة في هذا المؤتمر، ذلك أن الأمر يعني، بداية، وحدة الحزب على الصعيد السياسي والفكري والبرنامجي، وهذا مهم جدا.
وعندما نضيف إلى هذا مصادقة المؤتمر العاشر أيضا على القانون الأساسي للحزب، وعلى ما أضيف إليه من تعديلات، فيعني ذلك وحدة البنيان الحزبي التنظيمي واتفاقه الجماعي حول قواعد عمل تحضى بانضباط الجميع.
المحللون والمراقبون يجب أن يستنتجوا من كل ما سبق أن التنظيم الحزبي خرج من المؤتمر الوطني العاشر موحدا ومتفقا على الخط السياسي العام للحزب في السنوات الأخيرة “صودق على تقرير الأمين العام الذي قدمه ضمن خطاب الافتتاح بالإجماع”، وموحدا أيضا حول الأطروحة السياسية والبرنامج الوطني والقانون الأساسي، أي حول الرؤية العامة، سياسيا وفكريا وتنظيميا، لعمل الحزب في المستقبل، وخلال السنوات القادمة إلى غاية المؤتمر الوطني المقبل بعد أربع سنوات.
وبالنسبة لحزب جدي يحترم نفسه، ويمتلك التاريخ والمصداقية والتميز، يعتبر كل هذا انتصارا حقيقيا على كل المحبطات، وعلى تدني مستويات السياسة والعمل الحزبي في بلادنا، ويبعث على الفخر وسط كل مناضلات ومناضلي الحزب التقدمي.
من جهة ثانية، يعرف عن حزب التقدم والاشتراكية دائما حرصه على الواقعية، وكونه يفتح عينيه باستمرار على” المصلحة العليا للوطن والشعب”، ويلتزم ب”التحليل الملموس للواقع الملموس”، ولا ينخرط أبدا في سياسة ردات الفعل المزايدة والشعبوية عديمة الجدوى والأثر…
ولهذا يمكن التمعن في محاور الوثيقة السياسية والبرنامج الوطني المصادق عليهما في ختام أشغال المؤتمر العاشر، وأيضا الخطاب الافتتاحي للأمين العام في مستهل الأشغال زوال الجمعة، للوقوف على معالم هذه الرؤية المتجذرة لدى الحزب، ولتأكيد ثبات مواقفه الإصلاحية والتزاماته الوطنية وتطلعاته التقدمية، وذلك عكس ما يتناثر هنا أو هناك من اتهامات سطحية ومتهافتة.
هنا الحزب بكامله كان كالفينق انبعث في وجه الجميع ليؤكد للكل أنه برغم كل ما تلقاه من ضربات وتضييقات وضغوط ومناورات، فهو يمشي منتصب القامة موحد الصفوف واضح الرؤية، ويمسك بمبادئه بلا انفعالات طائشة أو نفخ أوداج.
وكم كان التعبير بليغا لما كان المؤتمرون جميعهم يقفون صفا واحدا ويرددون النشيد الحزبي المعروف:
” سنمضي، سنمضي إلى ما نريد# وطن حر وشعب سعيد”
“سنمضي، سنمضي إلى ما نريد# وطن حر وحزب عتيد”
ذلك كان هو “الميساج “الجماعي، والرسالة الموجهة إلى الكل، أي رسالة انتصار الحزب وإمساك كل مناضلاته ومناضليه بوحدتهم، وبقرارهم الحزبي المستقل.
لحظة انتخاب الهياكل الحزبية لم تكن، من جهتها، سوقا لتوزيع المناصب والكراسي والحصص، ولكنها كانت التنزيل العملي لخطة تنظيمية جديدة قوامها انخراط أكبر للتنظيمات الحزبية القاعدية في الأقاليم والجهات في اختيار القيادة الوطنية الجديدة، ومن ثم، فقد انتصر الحزب باعتماد الأسلوب الديموقراطي والمشاركة الواسعة للقواعد الحزبية في اختيار القيادة الوطنية، ولذلك جرت المصادقة على اللجنة المركزية للحزب ولجنتي المراقبة السياسية والمالية ومجلس الرئاسة بما يقترب كثيرا من الإجماع، لكون الأمر كان تتويجا لعمل تنظيمي ديموقراطي دام شهورا قبل موعد المؤتمر، وعاشته مؤتمرات الفروع الإقليمية أثناء مرحلة التحضير.
ولما انكب المؤتمر الوطني على انتخاب الأمين العام للحزب، هنا أيضا حضر الأسلوب الديموقراطي نفسه والخطة التنظيمية ذاتها، وتقدم مرشحان اثنان لكل منهما مساندوه ومعارضوه، وتقدما معا أمام المؤتمر لعرض دواعي ترشيحهما، ثم جرى التصويت السري، من لدن أعضاء اللجنة المركزية المنتخبة، أمام الجميع وبحضور ممثلي وسائل الإعلام، وتمت عمليات الفرز كذلك فوق منصة المؤتمر أمام أعين الكل ونقلت مباشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولما أعلنت النتيجة هنأ الرفيق سعيد فكاك رفيقه محمد نبيل بنعبد الله، وتبادلا العناق والكلمات الودية، وأقرا معا بنتيجة التصويت ملتزمين بقرارات المؤتمر واللجنة المركزية المنبثقة عنه.
هذا الدرس الديموقراطي والرفاقي وحده كاف للدلالة على أن حزب التقدم والاشتراكية يختلف عن الأحزاب الأخرى، وعلى أن الحزب بكامل مكوناته يصر على محاصرة اليأس من السياسة ومن النضال الحزبي، وعلى إصراره على وجود الأمل، وعلى التفاؤل بالمستقبل.
وكان الكلام باعثا على الاعتزاز لما أعلن الأمين العام الذي جدد المؤتمر الثقة فيه، أن التنافس انتهى منذ لحظة إعلان النتيجة، وأن الحزب له أمين عام واحد لكل المناضلات والمناضلين، وأن النضال سيتواصل ويستمر من لدن كل الرفيقات والرفاق في مختلف المواقع، وأيضا لما أعلن المرشح الثاني أنه معتز بالتمرين الديموقراطي، وأنه ابن الحزب ومستمر في نضاله داخل الحزب من أي موقع، ويهنئ الأمين العام.
في سلم انتصارات المؤتمر العاشر، جسدت هذه اللحظة أرقى المشاعر الرفاقية النبيلة، وعبرت عن إرادة جماعية للتوجه إلى المستقبل لبناء الحزب وإعداده للاستحقاقات السياسية والتنظيمية والانتخابية المقبلة.
إن المؤتمر الوطني العاشر لحزب التقدم والاشتراكية هو إذن محطة أساسية وجهت عديد رسائل معبرة، كما أنه مؤتمر الانتصارات المشار إليها أعلاه، وهو بالفعل كان متملكا لدلالة ومضمون ما يعبر عنه شعاره: “نفس ديموقراطي جديد”، أي أنه أسس لانبعاث جديد للحزب التقدمي.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top