مبدعون مازالوا بيننا -الحلقة 5-

تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

محمد السرغيني: الأستاذ والفنان

 المبدع محمد السرغيني أحد رواد الحركة التشكيلية بمدينة تطوان وبالمغرب عموماً، التحق منذ عام 1941 بالمدرسة العليا للفنون الجميلة سان فرناندو بمدريد – تخصص حفر -. وخلال عام 1957، عين أستاذا، ثم مديرا، في ما بعد،  لمدرسة الفنون الجميلة بتطوان ليصبح أول مغربي يدير هذه المؤسسة الفنية التكوينية خلفا للإسباني برتوتشي، وقد مكث بها زهاء 32 سنة.

وكان لإقامة الفنان السرغيني بإسبانيا لسنوات امتدت بين 1941 و1957 نفع عميم، ذلك أنه “بالإضافة إلى دراسته للتشكيل زار العديد من المتاحف والمعارض، وتعرف على الكثير من الفنانين والمثقفين، فاستطاع أن يراكم معارف وتجارب، خصوصا أنه كان يتقن أربع لغات حية، هي: العربية، الإسبانية، الإنجليزية والفرنسية، الأمر الذي جعله ينفتح على ثقافات متنوعة أكسبته شخصية منتجة ومؤهلة لشغل مهام كان مغرب الاستقلال في أمس الحاجة إليها”.

إضافة إلى ذلك، يعد الفنان محمد السرغيني من مؤسسي الجمعية الوطنية للفنانين المغاربة (أنترضت) وله مشاركات فنية دولية مهمة، أبرزها بينالي الاسكندرية لعام 1958 وقد حصل خلاله على الميدالية البرونزية، وكذلك الجائزة الثالثة بمناسبة معرض الفنانين المغاربة المقام بالأوداية/الرباط – نفس السنة. وقد وافته المنية في يناير 1991. تميزت أعماله عموما بانخراطه في التصويرية الواقعية المرتكزة على دقة اللون والشكل ومراعاة النسب والأبعاد وترجمتها على القماشة بإخلاص صباغي (زيتي ومائي)  كبير. وموضوعاته مستوحاة من البيئة المغربية بشخوصها وعمرانها وفضاءاتها الشعبية..

يُذكر أن المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان نظم عام 1993 معرضا استيعاديا تكريما للفنان الراحل محمد السرغيني شكل مناسبة لاسترجاع تجربة هـذا الفنان الرائد. وصدر بهذه المناسبة كاتالوغ في شكل مؤلف مونوغرافي ضم سيرة الفنان وصور لمجموعة من أعماله التصويرية فضلا عن كلمات وشهادات شارك بها زملاؤه المبدعون: أحمد أفيلال، عبد الكريم الوزاني، بوزيد بوعبيد، سعد بن شفاج وأحمد محمد مغارة. وفي القسم الفرنسي: نصوص لخليل المرابط، أحمد فاسي ودورا باكايكوا…

وفي عام 2013، أقيم معرض مماثل للفنان السرغيني بكل من فضاء التعبير لمؤسسة صندوق الإيداع والتدبير وفيلا الفنون بالرباط. بالمناسبة تم طبع مونوغرافيا فنية أنيقة استوفت شرطها التوثيقي بفضل المساهمة الفعلية لأسرة السرغيني، علاوة على النصوص المحكمة لصفوة نموذجية من المؤلفين الذين قدموا شهادات تاريخية ونقدية حول تجربة الفنان الرائد محمد السرغيني باعتباره من أوائل المبدعين المغاربة الذين تابعوا تكوينا رصينا في المجال الفني خارج الأوساط المغربية، فضلا عن أنه أدار على مدى ثلاثين سنة مدرسة الفنون الجميلة بتطوان (حاليا المعهد الوطني للفنون الجميلة)، وأشرف لمدة عشرين سنة على تسيير مدرسة دار الصنعة المختصة في الفنون التقليدية. فهو يشكل إلى جانب الفنان الغرناطي مريانو برتوتشي علما من أعلام مدرسة تطوان التشكيلية، ويعد أول مغربي درس الفن التشكيلي بطريقة أكاديمية قبل إحداث المدرسة الإعدادية للفنون الجميلة سنة 1945 والتحاق الشبان المغاربة الأوائل بها أواخر الأربعينيات بشهادة الفنان والباحث بوعبيد بوزيد.

 

 تعزز محتوى هذا المؤلف الجمالي بالنصوص الآتية: محمد السرغيني سيد زمانه! (الشاعر محمد الجرودي)، احتفاء بمحمد السرغيني (عمر عزيمان)، مغامرة محمد السرغيني الإبداعية (خوسي لويس غوميث برثلو)، فنان تشكيلي رائد (محمد بنعيسى)، محمد السرغيني الرائد (محمد العربي المساري)، التناظر والتمثل (علي بنمخلوف)، محمد السرغيني (ريم اللعبي)، إعادة ابتكار المكان (مريني أحمد فريد)، تصوير صباغي وهوية (خليل مرابط)، لعبة الرؤية التشكيلية عند السرغيني (أفيلال أحمد)، الإنسان والفنان (بوعبيد بوزايد)، شهادة عبد الكريم الوزاني.

بالإضافة إلى صور اللوحات المصاحبة ذات السجلات الأيقونية المختلفة، تضمن هذا المنجز المونوغرافي الجماعي على نحو حصري أبحاثا كاريكاتورية ورسومات تمهيدية فريدة، كما تم نشر صور تسجيلية للفنان محمد السرغيني تؤرخ لمرحلة البدايات مع جرد بيوغرافي لأبرز محطات مساره النوعي منذ تكوينه الأكاديمي بالمدرسة العليا سان فيرناندو بمدريد (1942 – 1949)، ونيله دبلوم أستاذ مادة الرسم والنحت عام 1950، وإدارته للمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان (1957 – 1987)، وكذا المدرسة الوطنية للفنون والمهن (1956-1975)، إلى جانب معارضه الجماعية منذ عام 1941، ومعارضه الفردية منذ عام 1949 وغيرها من الأنشطة الجمعوية والرحلات الدراسية.

     والواقع أن الفنان محمد السرغيني “كان مغربيا بنشأته وثقافته وجذوره”، كما قال خوصي لويس غوميث برثلو، مضيفاً بأنه “كان طموحاً في ميولاته نحو المزيد من التعلم وفي انسجام تام مع جذوره، حيث اختار العودة للمغرب لتطوير تجربته، وكريما لأنه ارتأى نقل معرفته وتجربته لجموع تلامذته الذين استفادوا من العرفان الذي حظيت به دراساته. غير أنه كان، في المقام الأول والأخير، مبدعا بكل ما تحمله الكلمة من معنى”.

إعداد: عبد الله الشيخ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top