مبدعون مازالوا بيننا – الحلقة (6)-

تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

 محمد شبعة: الشفافية والنُّور

الفنان محمد شبعة (1935 – 2013) مبدع استثنائي، وصاحب سجل حافل بالعطاء والإنتاج التشكيلي تنظيراً وممارسة، إلى جانب تجربته البيداغوجية الكبيرة ودفاعه عن الدرس الجمالي والتراثي ضمن منظور تربوي شمولي أسسه على خيارات تحديثية تروم دمج الفن في الحياة اليومية.

     حظي الفنان شبعة بتكريم من طرف اتحاد كتاب المغرب، حيث أصدر بالمناسبة كتاباً مونوغرافيّاً يؤرِّخ لتجربته الجمالية موسوماً بـ “الوعي البصري في المغرب” – يوليوز 2001، كما عاش تجربة الحبس بسبب نضاله داخل صفوف اليسار المغربي، حيث قضى فترات من الاعتقال ضمن نشطاء حركة أقصى اليسار سن 1972. سبق له إدارة المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة بتطوان خلال تسعينيات القرن الماضي..

     فبعد فترة طويلة دامت زهاء عقدين من الوقت اتسمت بالصمت والتأمُّل ومراجعة التجربة ظلت خلالها “الصباغة تشتغل في الرأس” (التعبير للفنان شبعة)، سيطالعنا هذا الأخير- مع بداية الثمانينيات – بتجربة صباغية جديدة أطلق عليها “بلاغة الشفافية والنُّور”، وهي سلسلة أعمال صباغية (أكريليك على القماش والورق) بدت مفعمة بالكثير من العلامات والرموز الراقصة والمتطايرة في الهواء وكأنها أشكال هندسية مذوبة صارت خفيفة ومتشذرة بعد أن تخلصت من بناءاتها الرياضية المتماسكة، هي بمثابة التوق نحو الحرية والانعتاق والتحليق في سماء المطلق واللامحدود..

     ولا شك أن لهذا التحول الجمالي في تجربة الفنان محمد شبعة ما يبرِّره ثقافيّاً وإبداعيّاً، إذ حلت المرونة مكان الصرامة.. والشفوف مكان الغوامق. يقول الفنان شبعة مبرِّراً ومعلِّلاً: “إن صباغتي لسنوات الثمانين كانت فضائية ومهواة بالأكسجين، هوائية وطائرة سجَّلت قطيعتي مع الإيديولوجيا كاشتراط لصباغة الإبداع. إن التصميمية الصارمة التي ميَّزت أعمالي السابقة، قد أخلت الطريق لصباغة “تتنفس” فطرة وشبابا مسترجعين. هذه الصباغة تدرَّجت في المكان والزمان من 1983 إلى 1993.. لم أكن أدرك آنذاك أنني كنت أؤسس لاتجاه ما بعد حداثي”.

     من ثمَّ، سيغدو التعبير التشكيلي عند الفنان محمد شبعة أكثر قوة وتحرُّراً، إذ سيقدِّم في معرض تشكيلي تاريخي أقامه خلال شتنبر 2004 برواق باب الرواح بالرباط مجموعة من اللوحات والمنحوتات التي تجسد انخراطه الجمالي في إبداع تشكيلي جديد بلغ حده الحداثي بالشكل الذي ظلَّ ينظر – من التنظير- له منذ سنوات طويلة وإلى الآن..

قماشات مطبوعة بقوَّة اللمسة..

     ما يثير الانتباه في القماشات الصباغية الأخيرة التي أبدعها الفنان محمد شبعة قبل رحيله، هو تلك اللمسات الفنية وضربات الفرشاة العريضة الواثقة التي تطفو على السطح معلنة عن حضور بصمات لونية متعددة المعاني والتجليات، لذلك تظل هذه اللمسات تتحرك داخل فضاء اللوحة.. وتطرح أكثر من سؤال بصري لمعالجة المساحة وفهم التكوين..

     بناء اللوحة عنده تقرّره أشكال متحرّكة تمثل شرائط عريضة منقوشة قائمة على التضاد والتنويع: تتعدَّد.. تنثني وتأخد هيئات متشابكة مستمدة من مرجعيات بصرية كثيرة قد تشكل في تاريخها الجمالي المتواصل امتداداَّ لبناء سابق يقوم على دلالات تجريدية من الممكن متابعتها داخل حدوس الفن الشعبي: تقسيمات هندسية متمايزة الشكل واللون، تركيبات زخرفية مستعارة.. إلخ..

     فهذا التحوُّل الإبداعي يظلُّ طبيعيّاً في تجربة الفنان محمد شبعة اعتباراً لتعدُّد أسئلته الجمالية وسفره الدائم واللامحدود في عوالم الثقافة والفكر والإبداع، لذلك يظلُّ الحضور البليغ والمتواشج للمسة العريضة يُبرز حركة التحوُّلات الأسلوبية التي تميِّز طريقة اشتغاله في علاقته بالمساحات والفراغات. فبلجوئه إلى التلاعب بالتضادات Contrastes كسَّر الفنان كثافة اللمسات بتوظيف ألوان متباينة تكثر فيها الغوامق والشفوف..

     هي أعمال صباغية تجمع بين نزوع جمالي وتعبيري في آن.. وقائمة في إنشائها على تخطيط لوني مدروس شفاف أحياناً.. حاجب أحيانا أخرى.. لكنه يظل في الحالتين معا مشحونا بقوة التعبير وبحرارة اللون في اشتعالاته المنطفئة.. وانطفاءاته المشتعلة..

     قماشات الفنان محمد شبعة، القديم منها والجديد، تتطلب أكثر من سبيل ملكي Voie royale للعبور إلى عالمها الداخلي المليء بحبور لوني متدفق يومض خلف الأشياء المصبوغة ويرسم انخراط الفنان المبكر في صباغة ما بعد حداثية عاكسة لفهمه واستيعابه الجيِّد لمرحلته..

     عالم الفنان هو اللوحة.. واللوحة هي عالم الفنان.. ولفهم الخلفية الجمالية لهذا العالم، ينبغي استشفاف الرُّوح الداخلية لعناصر البناء ومفردات التكوين: اللمسة واللون والعلاقات البصرية القائمة بينها..

     ومثلما برز ملوِّناً ماهراً ومنظِّراً في الفن، فقد تميَّز التشكيلي محمد شبعة نحَّاتاً بارعاً أيضاً، حيث تشهد على ذلك العديد من القطع النحتية التي أبدعها على مواد وسنائد متنوِّعة وعالج بواسطتها الكثير من القضايا والأسئلة الفكرية والبصرية ذات الأبعاد الإنسانية..

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top