محمد البندوري يعيد قراءة تراث اشبيلية

 خاض محمد البندوري في قراءة جديدة لتراث اشبيلية من خلال النقوش الخطية والزخرفية في الآثار الاشبيلية، فعزز بذلك مكانة القراءات التي طالت هذا التراث، ولكون القارئ متخصص في الخط وفي الفن وباحث فيهما فإن هذه القراءة حسب المتتبعين سواء في اشبيلية أو في الوطن العربي، قد أعطت معنى آخر لهذا التراث، علما أن الباحث قد سبق وأن خاض في قراءات أخرى في كل من قرطبة وغرناطة في السنوات الماضية. وقد قام حاليا بتتبع بعض الخصوصيات الفنية والجمالية التي أنتجها عباقرة التركيب الخطي في اشبيلية الأندلسية، حيث اعتبر أن التفاعل مع النقوش في الغرب الإسلامي إنما هو توجه مباشر إلى الخط المغربي بتفرعاته التي شكلت مظهرا بارزا في الحضارة المغربية والأندلسية، فهو الذي بعث مختلف السمات الجمالية في معمار الأندلس والمغرب وما خلفه ذلك من أبعاد دلالية ارتبطت بمراحل تاريخية وشهدت على تلك الحضارة الراقية. وهي التي منحت العمارة في هذه المدينة والمنطقة طابعا فنيا التصق بمناحي روحية وأدبية وثقافية ومعرفية وفكرية، تبعا لسدة الحكم الذي كان يميل إلى الأدب والشعر والفنون المتنوعة. وقدم محمد البندوري مثالا بقصر الملك المعتمد بن عباد الذي يعد أحد الأمثلة المبرهنة على ذلك، لأن المعتمد بن عباد كان ملكا وكان في الآن نفسه شاعرا وأديبا وكان يجمع في هذا القصر ثلة من الأدباء والشعراء وغيرهم، فكان انعكاس هذا التوجه باديا في المعمار الاشبيلي إلى حد كبير. ولذلك يعتبر هذا القصر كنزا خطيا وزخرفيا يزخر بنماذج من فن الأرابيسك والخط والأشكال الهندسية المتنوعة، وقد تأتى ذلك التنوع والجمال تبعا لازدهار مدينة اشبيلية  حيث بلغ أوجه في عهد المعتمد بن عباد ليتأتى له أن يشيد تلك  التحفة المعمارية التي خلدت اسمه لمّا تجسدت فيها معالم الخط والزخرفة في أبهى جمالياتها من أقواس أندلسية مصممة تصميما هندسيا رائقا؛ وجدران قد زينت بالخط الكوفي والخط الأندلسي وبالزخارف المتنوعة؛ حيث شكل فيها الخط الكوفي ذو الزخارف النباتية والكوفي المترابط والمورق  في الدوائر المتتابعة مساحة منقوشة على الجبص وعلى الخشب ليشكل مظهرا يضفي الطابع العربي الأندلسي على المعمار الإشبيلي بما يحمله من دلالات عميقة. وتطرق د. محمد البندوري كذلك إلى الخصائص الفنية التي  يحملها جامع اشبيلية الكبير وما يتسم به من رمزية فنية وزخرفية حيث أولاه الموحدون عناية خاصة، إذ حرص الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن على أن يكون أحد المعالم الدينية والحضارية في منطقة اشبيلية، حيث أبدع الفنانون وأبرزوا العبقرية الفنية المغربية الأندلسية في فنون الخط الأندلسي والكوفي وفي فن الزخرفة على الجبص والرخام في قبة المحراب، التي شكلت عملاً فنياً مبهرا، فتبدت معالم الفن المغربي الأندلسي متجلية ببهاء وجمال في نوع الزخارف النباتية في القبة، التي عبرت عن الجمال الفني والعمراني في منطقة الغرب الإسلامي. وقد تحول فيما بعد إلى كاتدرائية وتحولت المئذنة إلى برج لأجراس الكاتدرائية.

  ولم يفت البندوري التحدث عن الجمال في الخزفيات بإشبيلية وفي التحف وفي المصاحف القرآنية الشريفة التي شكلت نقطة تحول في المعمار الأندلسي الذي اتخذ كل مظاهر الزينة، ليتم ترسيخ الخط الأندلسي في كل المعالم الحضارية. كما شكل الخط بعدا فنيا في السكة النقدية حيث ضرب الدينار الذهبي الاشبيلي في حكم الموحدين بخط أندلسي قريب من الثلث المغربي جسدوا من خلاله مختلف العبارات ذات الدلالات الروحية والأخرى الرامزة إلى قوة الموحدين. وبذلك يرقى الخط الأندلسي إلى مرتبة فنية وجمالية قادت حمولة حضارية مبهرة جعلت للعمارة الأندلسية خصائص ذات أبعاد دلالية، قوامها الأساليب الخطية التي تنم عن العلاقة الوجدانية القائمة على مبدأ الخط البصري والمعنى الحضاري.

 يوسف مدني

Related posts

Top