محمد شكري حيا وميتا

كان الطريق شاقا علي من مرتيل إلى طنجة، فما كنت أحب أن أرى محمد شكري إلا وهو ماثل أمامي، في حضوره وهو بكل ابتهاجه وقلقه وسؤاله عن تفاصيل حياتي، لا عن فضول أو خبث كما يفعل الفضوليون والخبثاء، بل عن محبة ومشاركة حميمة كما كنت أشعر بذلك. فسؤاله عن أحوالي كان نابعا من شعور بالمحبة، كما كان مدخلا للبوح المتبادل بيننا، وهو البوح الذي احتفظ محمد ببعض ما يمكن أن يعتبر منه أسرارا. لم يكن كبعض اللئام الخبثاء إن بحت لهم بسر من أسرارك في لحظة صادقة استغلوا ذلك البوح للتشهير والتشنيع في حرب يخوضونها وراء ظهرك. شكري لم يكن من هذا الصنف من البشر، فقد باح لي بأشياء تتعلق بسيرته، لم يكتبها في (الخبز الحافي)، لقسوتها، لكنه كان مثلي، شديد البوح في أوقات تفجر ذاكرته وأحيانا مع أناس لا يرقون إلى مستوى معرفة الذات ومعرفة خصوصية حميمية اللحظات، فهم كالجمال الجرباء، أو هم جواسيس مقنعون لا يتجسسون على ما هو سياسي ولكنهم يتجسسون على حياة الآخرين. كان محمد مثلي، عاري القلب يكشف عن حزنه وعن طفولته وعن خصوماته لمن يستبيحون ذلك، وهي سمة في شخصيته أشترك معه فيها، وعلى عيوبها فهي تعبر عما لا يستوعبه بعض الآخرين من صدق وشفافية، وعدم أخذ الحيطة والعذر من الناس لثقة بهم، فشكري ما كان يؤمن بقول الشاعر: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة، فربما انقلب الصديق إلى عدو فكان أعلم بالمضرة. ما كان يؤمن بذلك لأنه كان يفتح قلبه العاري في لحظات صدقه ولا يهمه ما سيحدث بعد ذلك. وبقدر ما خلق الله للكتاب قراء ومعجبين ومحبين فقد خلق من يتسلطون على حياتهم فيفسدونها حسدا منهم وغلا في النفوس. ومن حسن الحظ أن الأوائل كثر والآخرين قليلون، وعلى قلتهم فهم ماكرون في الفساد والإفساد، ينغصون على الكتاب صفو تأملهم واستغراقهم في بناء عوالم أعمالهم. لذلك وجدت في حوار أجراه حسن بيريش مع شكري ما يقدمه للمسرحي الزبير بن بوشتى لا كنصيحة وإنما كمعاناة من أصحاب الفخاخ الذين يديرون الدوائر على الكتاب واهمين أنهم سوف يعوقونهم عن الكتابة، ومن كان أصيلا من الكتاب يتعامل
مع الكتابة على أنها تعليل لوجوده لا يمكن أن يخون علة وجوده في الحياة ليسير مع السخفاء والتافهين. كان شكري مبهورا بنص (زمن القتلة) لرامبو، وكان يكره القتلة، أينما كانوا.
***
طريقي إلى حضور مراسيم دفن شكري في العام الماضي لم يكن كهذا الطريق الذي أذهب فيه اليوم لزيارة قبر شكري، ورغم أنه هو الطريق نفسه من مرتيل إلى طنجة فقد تغيرت معالم الطريق، فكأن الطريق صار صحراء أو مفازة أو مسلكا من مسالك العبور إلى المستحيل. قبل مواراة محمد في التراب كانت ساحة المسجد الذي سوف تصلى عليه فيه صلاة الجنازة غاصة بكل الكتاب المغاربة الذين من أقصى المدن وإلى أقصاها، فحال وصولي كان أول من رأيته هو الصديق حسن أوريد، فتبادلنا العزاء في محمد، وكنت محرجا بنظرات من تجمعوا من الكتاب وأنا أطلب من السي حسن أن يبلغ شكرنا لجلالة الملك على الرعاية الملكية التي تلقاها محمد شكري، وبمجرد ما تخلصت من ذلك الإحراج، فقد جاءتني كاميرات القنوات التلفزيونية تأخذ مني انطباعات عن علاقتي بمحمد، وكانت الغصة في حلقي فكيف أتكلم؟ وما كنت سأتكلم لولا أن كان من طالبوا تلك الانطباعات أصدقاء قبل أن يكونوا إعلاميين في القناتين الأولى والثانية، يفرض علي احترام صداقتي لهم أن أتكلم، فقلت ما قلته وكفى. ثم وجدت من حولي أصدقاء كثيرين، من بينهم محمد الأشعري ومحمد بنيس والمهدي أخريف ورشيد بنحدو وآخرين كثيرين، تبادلت معهم العزاء وأنا لا أراهم إلا من وراء ضباب كان يجلل عيني. رأيت صديق العمر الشاعر محمد بنيس وهو أول من يدخل المسجد للصلاة على الجنازة، ثم لمحت أخت محمد رحيمو وقد عرفتها من حديثها مع الأشعري، وهي نفسها أخت محمد التي لا تعرفني أما أنا فأعرفها جيدا من خلال ما كان يحكيه لي عنها محمد، وهو يسميها أختي السبتاوية، ولما لمحت شابة ترافقها وهي تحدث الأشعري فقد عرفت أنها مليكة أخت محمد، تلك التي كانت صورتها تحتل المكان الأرفع من بين الصور التي كانت في غرفة نومه، وهي تلك التي كان يحبها كأخت ويرى فيها العائلة كلها، وهي التي رحنا أنا وإياه لحضور عرسها في تطوان، فكان العرس قد مضى عليه يوم أو يومان، ولقد تغيرت بعد ما أدركها من سمنة، فلو رآها محمد لما عرفها، وهي تقيم في الدار البيضاء التي كان يزورها كثيرا من أجل طبع كتبه فلا يفكر في زيارة أخته التي تقطعت أوصال علاقته معها، وهو يعتبر ذلك من أكبر الخيبات في حياته. سألت عن أخيه عبد العزيز الذي زرناه أنا ومحمد في دكانه بالسوق المحاذي للمحطة الطرقية في تطوان، قبل أن يحترق السوق ويذهب عبد العزيز إلى حيث لا يعرف محمد، وما من أحد أعطاني الجواب، فلم أدر أهو حاضر في جنازة أخيه أم لا، وما كان أحد من مشيعي الجنازة يعرف أخاه عبد العزيز على حد اعتقادي. 
***
أتخيله في جنازته فرحا بكل ذلك الحشد من الكتاب والشعراء والفنانين الذين رافقوه إلى مثواه الأخير حتى واروه التراب. وأتخيله يتفحص وجوههم وأسماءهم واحدا واحدا وهو يقول هذه آخر كأس وهذا آخر فلس وهذا آخر صديق، جملته الأثيرة التي كتبها في (زمن الأخطاء) فظل يرددها علينا كلما استشرف الفقدان، وكلما اقترب من سيرته الأخرى التي لم يكتبها في (وجوه). فأين هو الفنان التشكيلي السي أحمد الدريسي؟ آه! مات قبل محمد. أحقا مات السي أحمد وهو من جمعتنا به جلسة حميمة في الرباط، قبل موته بشهر تقريبا؟ وأراه يتفحص الوجوه الأخرى التي لم يكتب عنها في الجزء الثالث من سيرته الذاتية: (الخبز الحافي، زمن الأخطاء، وجوه)، يتمعن في نظراتها إلى الرفات وهو قادم من المستشفى العسكري بالرباط إلى أكبر المساجد بطنجة للصلاة، وهو رفات محمد شكري لا رفات أي أحد آخر، حتى ولو تشارك الناس جميعا في الموت وفي التجاور في المقابر، وكلنا لله، نتوحد في الموت ولكننا نفترق في الحياة، حتى وإن كانت هذه اللغة لا تعجب شكري الذي كان يقول عن الموت إنه نهاية ولا يهم ما يحدث بعدها. 
***
نصل إلى مقبرة المجاهدين بالسيارة، والجو منفرج والسماء صافية شمسها دافئة، فأكتشف أن الباب لا يوحي لي بأنه هو باب المقبرة التي وارينا فيه محمدا التراب. قلت لمرافقتي:
ـ قبر محمد ليس هنا.
قالت لي:
ـ أليست هذه هي مقبرة المجاهدين؟
بعد جولان وسط القبور رأينا زوجين يسكنان قبرا واحدا وأخوان يسكنان قبرا واحدا، وهذه ظاهرة غريبة، فقلت لها:
ـ هل نتساكن أنا وأنت في قبر واحد؟

زمت شفتيها وقالت لي:
– الأزواج والأحبة يتساكنون في الحياة ولا أدري هل سيتساكنون في الموت.
ومن غير شك فإن تخطيطا للتساكن في الموت، مدفوعا بالرغبة في عدم الفراق حتى في الموت، هو
يتدبر أمرا كهذا. وصية يكون قد أوصى بها أحد منهما أو هما معا. لم أستطع أن أفك بعض رموز هذه العلاقة التي يمتد فيها التساكن إلى ما بعد الحياة. تراجعت في سيري بين القبور وأنا أوقن أن قبر شكري ليس في هذه المقبرة، وبعد تردد عدنا إلى باب المقبرة فسألتْ مرافقتي قيما على المقبرة عن قبر محمد شكري، فقال لها:
ـ آه، هذا الاسم أعرفه، كان يعيش في السوق الداخل، فمتى توفاه الله؟
نظرنا إلى بعضنا وقلت للرجل في رمضان الماضي. قال:
ـ لدينا سجلات نحصر فيها الموتى وأماكن دفنهم في هذه المقبرة، لكني لا أعرف القراءة والكتابة لكي أعرف ما في تلك السجلات، وسيأتي بعد حين رجل سوف يطلع على الصحائف، بمساعدتكم، وسيرافقكم إلى القبر، على أن تدفعوا له أجره. قلت لمرافقتي إن شكري ليس دفين هذه المقبرة بالتأكيد، فخرجنا من مقبرة المجاهدين وسألنا عن مقابر طنجة وعددها ومواقعها فبدونا لمن سألناهم كالغرباء عن الموتى وما نحن سوى غرباء في الحياة. لما ذكر أحدهم اسم مقبرة مرشان، قلت لها:
ـ هي، هي نفسها، وعلينا أن نذهب إلى مقبرة مرشان. وصلنا إلى مقبرة مرشان وعند المدخل تأكدت من أنها المقبرة التي وارينا فيها جثمان محمد التراب. اشترينا قبضة من أغصان الريحان الذي يكثر في أشقار لنضعه على قبر محمد. كما تكاثر حولنا السقاؤون الذين يحملون علبا مملوءة بالماء هي في الأصل للزيت، فسقي الموتى بماء الرحمة هو نفسه ما كان يتم من قرب الرحمة الجلدية التي كنت أراها في مقابر فاس والسقاؤون يحملونها على ظهورهم وينادون:
ـ ها الما للسبيل.
أما اليوم فقد تحولت تلك القرب الجلدية إلى علب هي في الأصل للزيت وقد صارت مليئة بالماء. سرت أمامهم تقودني خطواتي إلى القبر. ها هو. (هذا قبر المرحوم محمد شكري، الروائي والكاتب العالمي). هذا ما كتب على شاهدة قبر محمد، فكما كان نادرا في حياته فهو نادر في موته، إذ لا أحد من دفيني هذه المقبرة أو في غيرها من مقابر طنجة يمكن أن ينافسه في هذه الصفة أو أن يصاب منها بالغيرة فيعتبر عالمية شكري مجرد ممازحة. كان ثمة زحام شديد حول قبر يوجد بجوار محمد، ومقرئون كثيرون يقرأون ما تيسر من الذكر الحكيم. وضعنا أغصان الريحان على قبر محمد وكانت ثمة أغصان أخرى كما كان القبر مسقيا بماء الرحمة فقالت لي مرافقتي:
ـ زوار سبقونا للقبر للترحم على صاحبه. شككت في الأمر، فاليوم هو الجمعة الأخير من رمضان وربما يكون العيد غدا أو بعد غد، والوقت وقت ضحى وأصحاب محمد لا يستيقظون باكرا وأهله بعيدون عن طنجة، فمن يكون قد سبقنا إلى الترحم على قبر محمد فسقى القبر ووضع عليه أغصان الريحان؟ قرأنا عليه الفاتحة وسورا من القرآن الكريم، ووقفت أراه ماثلا أمامي، لا يصدق أن الموت قد تخطفه، هو الذي غادر طنجة إلى المستشفى العسكري بالرباط على أمل العودة إليها. في طريق العودة وعند منتصف الطريق تدفق المطر من جديد. كنت صامتا ومرافقتي ترقب دموعا جادت بها عيناي. قالت لي:
ـ أعرف أنك حزين لفقدان محمد، ولكنك تبكي نفسك كما تبكيه، وما كان محمد سوف يذرف دمعة عليك لو كنت قد سبقته إلى القبر، لا لأنه كان لا يحبك، ولكن لأن الدموع لم تذرفها عيناه في كل المحن التي عاشها. كفكفت دموعي ثم دخلت في بكاء صامت على نفسي وعلى محمد وعلى كل من عاشوا وماتوا من أجل الكتابة وحدها و(من أجل الخبز وحده).

 بقلم: محمد عز الدين التازي

Related posts

Top