مدن العالم تقاوم الغرق في بحر الإرهاب

تعرضت مدينة برشلونة إلى هجوم إرهابي دموي أدى إلى مقتل وإصابة 126 بريئا من جنسيات مختلفة، بمعنى آخر إن الإرهاب ضرب بلدانا كثيرة دفعة واحدة.
قبل شهر من جريمتي الدهس المروعتين شهدت برشلونة تظاهرة من أنصار اليمين المتطرف طالبت الحكومة المحلية لإقليم كاتالونيا، الذي يستعد في الأول من أكتوبر المقبل لإجراء استفتاء حول تقرير مصير الانفصال عن أسبانيا، بمنع تشييد مسجد على أنقاض أشهر حلبة مصارعة ثيران أثرية تدعى لاموميتال. وقد تم شراء المكان بمبلغ يتجاوز ملياري يورو لبناء أكبر مسجد في أوروبا والعالم.
يقال إن الشيطان يكمن في التفاصيل، وهذه التفاصيل يتعامل معها المجتمع الدولي على طريقة الخوف أو الرهاب من سحب الستائر المغلقة خشية إطلالة الوحش المجهول من خلفها. الاقتراب من الستائر لن يحل الأزمة كما يحدث في مؤتمرات أو اتفاقيات الحد من الهجرة غير الشرعية وهي أحد مغذيات الإرهاب التي تعرضت إلى الابتزاز السياسي والمالي المتبادل.
انعقدت قمة باريس المصغرة لمراقبة تدفق اللاجئين من أفريقيا وتحديدا من ليبيا وتشاد والنيجر وبحضور رؤساء تلك الدول إضافة إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسي وزراء إيطاليا وإسبانيا.
تعقد القمة في البحر المتوسط حيث سقط 1400 غريق على مدى عام واحد فقط. إيطاليا استقبلت من الناجين خلال السنوات القليلة الماضية 600 ألف مهاجر في وقت تعاني فيه من انهيار اقتصادي وتستغيث لنجدتها وانتشالها من قبل دول الاتحاد الأوروبي.
فرنسا اقترحت إنشاء مكاتب لجوء في الدول الأفريقية المعنية للنظر في طلبات اللجوء ودعمها ماليا. إجراء كما يبدو يجتزئ المشكلة ويفاقم أسبابها لأن الإرهاب في التفاصيل الغائبة عن مسرح المعالجات الدولية الفاعلة.
لماذا أصبحت دور العبادة الإسلامية مصادر خوف في أوروبا وغيرها من دول العالم؟ ونحن أدرى بشعابنا وبالذات في وطننا العربي، فأرضنا كانت مهد التعايش ويكفي شاهدا أننا نرى في العراق وفي العاصمة بغداد وعواصم عربية أخرى الكنائس والمساجد تتجاور حتى في الشارع الواحد وتتقاسم أسماعنا أصوات النواقيس مع أصوات المآذن.
في سهل نينوى أقضية ونواح عاش فيها المسيحيون طيلة قرون بألفة ومحبة مع المسلمين. مأساة الأرمن في الحرب العالمية الأولى وهي محل تنازع وجدل حتى الآن بل سبب رئيسي في تردي علاقات تركيا مع ألمانيا ومع دول الاتحاد الأوروبي. العشائر العربية في الموصل كانت ملاذاً لهم، والمثل الذي يحضرني باستمرار أن صديقاً يدعى أرمين كان جده لأبيه مسلماً وكان إسلامه برغبة منه إكراماً للقبائل العربية التي احتضنت أسرته مع أسر الآخرين. أما الأبناء فقد عادوا إلى دين آبائهم وأجدادهم وانتشروا في أرض العراق من العمادية المحاذية لتركيا إلى الموصل وبغداد والبصرة.
الشرق الأوسط مصدر للحضارات المتعاقبة، والديانات الإبراهيمية تعدت الانقسامات إلى الصدام مع الغزاة والحملات الاستعمارية، وبعض مبرراتها كانت الأديان والمذاهب لكنها في الجوهر لغايات سياسية مازال العالم يخجل ويتألم من حقائقها.
الوطن عندما يكون هوية واضحة، تذوب وتنصهر فيه الهويات الفرعية وذلك دور القيادات والحكومات مهما كان توصيفها السياسي في نظامها وسلطتها. الإرهاب أسبابه مفهومة وفي طياته وقائع لجرائم متتالية ارتقت إلى الإبادات.
أهداف الإرهاب أكثر وضوحا من أسبابه، داخل حدودنا الإقليمية أو بعيدا عنه، وأي إرهاب من أي مصدر سيؤدي حتما إلى إرهاب مقابل. الاستثناء في رد الفعل هو ما يفوت الفرصة على تمدده. في برشلونة ورغم تصرفات اليمين المتطرف نُظمت تظاهرة تقدمتها لافتة كتب عليها “لست خائفا”، ومن خلفها مشى ملك إسبانيا فيليب السادس ورئيس الحكومة ماريانو راخوي وكلاهما تعرض لشعارات مناوئة كما هو متوقع لأغراض سياسية معروفة لها صلة برغبة الانفصال وكان برفقتهما رئيس حكومة إقليم كاتالونيا وذلك كان ضرباً من الخيال قبل العمليات الإرهابية. من الطبيعي أن المآسي توحد الناس، لكن ليسوا كلهم. الملفت هو حضور عائلات منفذي الاعتداءات الإرهابية ومسؤولي الجمعيات الإسلامية وأئمة مساجد إسبانيا. شقيقة أحد الإرهابيين ألقت كلمة نددت فيها بالإرهاب وفكره والمروجين له. عدد من المثقفين الأسبان حذروا من معاداة المسلمين أو الحث على الكراهية.
الإرهاب ليس وليد اليوم لكن أوروبا وفق كل المعطيات تتفاجأ به كل مرة وكأنه لم يكن ضمن حساباتها الأمنية والاستخباراتية. العرب والمسلمون كذلك يفعلون ويتجاهلون أن المدارس الفقهية وكتبها وتعاليمها كانت بيننا لكنها لم تؤدّ رغم تنوعها واختلافاتها وبما فيها، إلى اقتتال منهجي ووحشي كالذي جربناه ونجربه يوميا في العراق وسوريا، ونتابع حلقاته في كل بقاع الأرض.
الاتحاد الأوروبي في خطر وحرية التنقل بين الدول الأوروبية فقرة مستهدفة على جدول الإرهاب. الهجرة غير الشرعية مفتاح لتسلل الإرهاب بين جموع فقدت ثقتها في الحياة داخل أوطانها المكبلة بالفقر والجوع والإذلال وقمع السلطات وضياع الأمل رغم التضحيات العظيمة.
كيف نصف إعادة تأهيل الإرهاب إلى سلطة مثل سلطة الحاكم في سوريا مع مليون قتيل من الشعب السوري وتدمير المدن وقرابة 40 ألف صورة شخصية لقتلى تحت التعذيب في سجون النظام موثقة وتحت تصرف الأمم المتحدة. نظام استخدم الكيمياوي عشرات ومئات المرات فضلا عن الإبادات والبراميل المتفجرة. الإرهاب في أوروبا هو الإرهاب في سوريا والعراق. كيف يتم الفصل بين الإرهاب الإيراني الصريح الداعم للإرهاب في دول عديدة وبأدلة قاطعة، وبين الإرهاب الإسلامي في أوروبا والعالم؟
روسيا زورت صلاحية حاكم سوريا بالفيتو وبقواعدها العسكرية وتركت الميليشيات الإيرانية توغل بدماء السوريين. روسيا أعطت درسا في فصل الأخلاق عن السياسة وترويض الإرهاب ليكون في خدمة استراتيجياتها، وطوعت الإرادات لدولة مثل فرنسا وهي مثال لثورة العدالة والحرية وحقوق الإنسان لتتخلى عن مبادئها عندما تخلـت عن إدانتها لجرائم تصنف وفق القانون الدولي جرائم حرب ضد الإنسانية، وسمحت لتمرير الحاكم من بوابة المرحلة الانتقالية وتطرقت إلى “حقه” في الترشح للانتخابات.
مهزلة أن يقف العالم قرب ستائر مسرح الإرهاب ويتردد في سحبها ليكتشف ماذا فعلت العنصرية والكراهية والنازية والفاشية وتنظيمات الإسلام السياسي، وماذا حل بالعالم بعد ثورة الخميني واحتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان و11 سبتمبر 2001 وما تلاه، وعدم التحكم في وسائل الاتصال والصمت على المعلومات الاستخباراتية واللعب بمصائر الشعوب، وتحويل ثورات الحرية إلى حمامات دم برعاية عالمية وإقليمية.
هل تحتاج برشلونة إلى أكبر مسجد بالعالم وفي هذا التوقيت مع انتشار مئات المجالس الإيرانية للعزاء واللطم في كل أوروبا وأميركا؟ الإرهاب يتنافس على تعصبه كما لو كان مكتبة متنقلة فيها كتب تحتوي على أبطال روايات بينهم عشاق وبينهم أيضاً قتلة ومصاصو دماء من كل المرجعيات.
برشلونة ولندن وباريس وبغداد ودمشق وشارلوتسفيل ونجامينا ليست تفاصيل تكمن فيها الشياطين، لكنها مدن تناضل على اختلاف ثقافاتها ومستوى معيشتها وتنوع مساقط رؤوس مواطنيها من أجل المساواة في حق الحياة، لذلك يهرب الناس إلى أراض أخرى لم تغرق بعد في الأيديولوجيات والخوف من كل فوبيات الإرهاب.
حميد كيلاني

Related posts

Top