مرضى كورونا وسيدة الشاي

تشير عقارب الساعة إلى التاسعة إلا ربع صباحا، بالمستشفى الميداني بمركز المعارض محمد السادس، بمدينة الجديدة. يجتمع على رأس كل ممر فرعي قرابة عشرة أشخاص بأعمار مختلفة، بعضهم يرتدي الكمامة فيما آخرون غير مبالين. والواقع أن “اللامبلاة” جمعت الجميع في كفة واحدة فيما يخص التباعد، كما جمع أغلبهم ذيوع ثقافة إلغاء الآخر والاستحواذ على حقوقه.
“الشاي.. من يريد الشاي؟!”، بصوتها الأنثوي، تظهر في آخر الممر الرئيسي، مرتدية لباسها الأبيض الواقي، ولا يظهر منها إلا عينيها ، حاملة بيدها اليسرى إبريقا كبيرا للشاي الساخن.
ما إن تجلس السيدة التي وحدها تعلم ظروف دفعها لخدمة مئات المصابين بفيروس كورونا، متخذة وضعية القرفصاء، حتى يتوجه الجميع نحوها مسرعين، كجيش نمل متوجه إلى حبة سكر، غير آبهين بخطورة هذا التجمع.

يحمل مصابون، من المتجمهرين حول سيدة الشاي الساخن، قنينات بلاستيكية بسعة ربع لتر، يسعون من خلالها للحصول على أكبر قدر ممكن من الشاي الساخن، فيما قلة معدودة على رؤوس الأصابع تحمل الكؤوس الكرتونية، التي يحصلون عليها كل صباح من القائمين على التغذية بالمستشفى.
في مشهد يسافر بك إلى الفيلم الصامت les temps modernes، للممثل تشارلي تشابلن، تضغط سيدة الشاي بيدها اليمنى بدون توقف على إبريق الشاي، ممسكة بيدها اليسرى بالتناوب القنينات البلاستيكية التي توصل حرارة الشاي إلى يدها.
تحرك يدها بين الفينة والأخرى، لتريحها من حرارة الشاي، أو لعل المصابين يفهمون الأمر ويجلبون أكوابهم الكرتونية بذل البلاستيكية التي باتت تحرق يدها.
ليست حرارة الشاي وقوة الضغط على الإبريق من يرهقان السيدة، بل احتجاجات المصابين أكثر إرهاقا، يسعى أغلبهم للحصول على أضعاف حصته القانونية من الشاي، غير آبهين بباقي المصابين، فبعضهم حتى وإن ملأ القنينة ذهب وجلب كوبه الكرتوني للحصول على كمية إضافية، وكل هذا يعتبره هؤلاء انتصارا وفوزا ينتشيان به، ناسين أو متناسين بأنهم حرموا آخرين من حصتهم من الشاي.
إن تصرفات هؤلاء المصابين هي تعبير عن الأنانية، وبالتالي هناك نماذج لم تتعلم معنى الحياة الاجتماعية التشاركية، وما جانب الشاي الساخن إلا مجرد قليل من كثير مما يقع داخل هذا الفضاء الميداني، وما يمكن أن نجده كذلك خارجه في إقامات السكن المشتركة، وعند الأطفال عندما يتسابقون ويتخاصمون على مقعد الجلوس داخل القسم، وبين عامة الناس في طوابير الانتظار بمختلف المصالح العمومية.

وتأتي عيوب الأنانية هذه، أساسا من التربية التي يتلقاها الطفل على حب التملك وعلى نوع من البحث عن الأسبقية على حساب الآخر.
فالمغربي عندما تتاح له الفرصة وتقدم له للظهور في مجال معين، فهو لا يظهرها على أساس أنه متوازن بل يظهرها على أساس إقصاء الآخر، وحين تتاح له الفرصة أحيانا لكي يتسيد، فهو يتسيد بدون حساب أو مراجعة أو أخلاق أو قيم، وبدون أي مرجعية.
ولا يمكن ربط هذه الأفعال فقط بالبعد الأناني “البعد النفسي” بل حتى بمفهوم الثقافة الشعبية التي تتداول بين الناس، حيث نجد من الأمثلة المعروفة “الله يجعل الغفلة بين البايع والشاري” وكيف تتم ترجمتها، “لي لقا الهمزة وما خداهاش كانبوا”، وغيرهما من المسكوكات التي تكون في المخيلة الشعبية وتتمثل حين تكون هناك حياة مشتركة.
إذا تجند العالم بشكل عام، وكل الأطر المغربية بشكل خاص لمحاربة هذه الجائحة، على مدى أشهر عدة، فكم سيحتاج منا لمحاربة المرضين الصامتين الجهل والأنانية اللذين ينخران المجتمع ويدمرانه بشكل خطير؟.

< من داخل المستشفى الميداني بالجديدة: عبد الصمد ادنيدن

Top