مسار التخلص من صحافة الاستعمار

خاضت الصحافة الوطنية، مسنودة بأحزاب المعارضة في الستينات خاصة حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، معارك شرسة من أجل إلغاء الصحافة الفرنسية الاستعمارية، التي واصلت الصدور بعد نيل الاستقلال علاوة على مواجهة صنوف الرقابة ومناهضة كافة أشكال التضييق على حرية التعبير والرأي.
ويحتفظ تاريخ الصحافة المغربية، خلال مرحلة ما بعد مرحلة الاستقلال، بفصول من المعارك السياسية والقضائية والإعلامية التي شنتها الصحف الوطنية، خاصة ضد الصحافة الاستعمارية ممثلة في صحف “ماس” التي كانت عونا لقوى الاحتلال، ولعبت أشنع دور يمكن أن تلعبه أداة فكرية ضد بلد أوقعه سوء الحظ والظروف الداخلية والعالمية تحت نفوذ استعماري قرابة نصف قرن، كما جاء على لسان الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة المغربية عبد الكريم غلاب (1919- 1917) في كلمة تقديمية ألقاها في الثالث من يونيو سنة 1964 خلال ندوة صحفية بالرباط، للتعريف بالمبادرة الرامية إلى الغاء صحافة “ماس” التي واصلت الصدور رغم ماضيها الاستعماري.

مجموعة ” ماس “: شبكة صحف وعقارات وثروة من مضاربات تجارية

وتوصف هذه المجموعة الإعلامية بصحف “ماس”، نسبة إلى صاحبها (Pierre Mass) الذي استفاد من ثروة والده أنطوان التي جمعها من مضارباته التجارية والعقارية بالمغرب منذ سنة 1907 والتي اعتمد عليها في تأسيس أربعة جرائد هي (La Vigie Marocaine) و(Le Petit Marocain) اللتان كانتا تصدران بالدار البيضاء، و(Echos du Maroc) بالرباط، و(Maroc le Courrier du) في فاس، وذلك خلال الفترة الممتدة ما بين 1926 و1939.
وكانت مجموعة “ماس” الصحفية تتوفر على إمكانيات هائلة، من بينها عمارات وممتلكات وعقارات بالدار البيضاء، وهي عقارات كانت مشيدة على أراضي في ملكية وزارة الأوقاف، فضلا عن أرصدة مالية ومصرفية – يقول مدير جريدة “الأسبوع الصحفي” مصطفي العلوي (1936 – 2019) – في حوار حصري خاص موضحا كذلك، أن الغاية الأولى من تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية سنة 1963، كان هو “إنجاز مشروع وطني بارز للعيان، يكتسي طابعا سياسيا محضا، يتمثل في محاربة صحافة ماس الاستعمارية”.
ولم تكن صحف “ماس”، تخدم الفكر الاستعماري فحسب، ولم تقاوم حركات التحرير والوطنية فقط، ولكنها كانت طيلة حياتها، تعبر عن أفكار رجعية عنصرية، وتشعل نار العداوة، خاصة بين الأوروبيين والمغاربة، وتهين كرامة المواطنين وتستعدي عليهم الأوربيين، سواء كانوا حكاما أو تجارا أو فلاحين أو رجال دين.

صحف “ماس” أداة استعمارية لمحاربة حركات التحرر الوطني

وأضاف عبد الكريم غلاب أن صحافة ‘ماس”، كانت تستهدف كذلك، تسخير أرض المغرب ومنتجاته من أجل إثراء غير مشروع، لا هدف له إلا سرقة الثروة. وبذلك، كانت هذه الصحف، ليست أداة لخدمة الرأي العام الوطني ولا الأجنبي وتوجيهه، ولكنها كانت أداة تخريب استعمارية، علاوة على أنها كانت لسان الرأسمالية المتحكمة التي لا تستهدف إقامة تعاون اقتصادي بين المغرب وفرنسا وأوروبا، ولكنها كانت تستهدف إقامة استعمار اقتصادي أساسه الاستيلاء على كل ممكنات المغرب الاقتصادية.
وفي مواجهة هكذا وضع، لم تكتف نقابة الصحافة بتنوير الرأي العام حول الأدوار السلبية للصحافة الاستعمارية، وإنما بادرت إلى تقديم مذكرة إلى الحكومة شرحت فيها الحيثيات القانونية والسياسية والوطنية التي تجعل هذه الصحافة غير ذات موضوع في مرحلة الاستقلال، خاصة وأن القانون في تلك المرحلة كان لا يسمح بصدور صحف أجنبية في المغرب، إلا بإذن خاص يصدر بمرسوم، وهو قيد يؤكد مدى اقتناع المشرع المغربي بأن إصدار الصحف وإدارتها وتمويلها حق للمغاربة.

استمرار صدور صحافة “ماس” في عهد الاستقلال خرق للقانون

بيد أنه على الرغم من هذه المذكرة، فإن الحكومة لم تعتن بالموضوع، مما دفع بنقابة الصحافة الى رفع هذه القضية إلى القضاء، وفقا لمقتضيات قانون الحريات العامة الصادر في 15 نونبر 1958. وإذا كان القضاء اعتمد على وجود طلب إذن قدمته الصحافة الوطنية لم تجب عليه الحكومة، إلا برسالة مؤقتة، وليس بالمرسوم الذي هو اختصاص للسلطة التنفيذية، وليس من اختصاص القضاء، فبرأ صحف “ماس” من مخالفة القانون، ولكن بالمقابل لم يحكم بشرعيتها، يوضح غلاب أول كاتب عام لنقابة الصحافة.
ووجه غلاب انتقادا شديد اللهجة إلى الحكومة (برئاسة أحمد باحنينى سنة 1963) التي اتهم بعض أعضائها بتفضيل الصحف الأجنبية في ندواتهم الصحفية وفي استجواباتهم وتصريحاتهم، دون العناية بالصحف الوطنية. وقال إن هذه الحكومة التي “التجأت إلى المناقشة البيزنطية لتستر ضعفها” أمام موضوع الصحف الأجنبية، ليست قادرة، نظرا لوضعها الداخلي والخارجي، على اتخاذ أي قرار وطني، ولو أجمعت الأمة على المطالبة به، بل أن بعض المسؤولين بها ينتهزون فرصة مطالبة الأمة بتصفية الصحافة الأجنبية، ليقوموا بعمليات تجارية مع جماعة “ماس” مثلا”.

استخدام صحافة “ماس” في مهاجمة أحزاب المعارضة

وأضاف أن الحكومة، كبعض الحكومات التي سبقتها، كانت تعتمد كل الاعتماد على الصحف الأجنبية لمناصرتها ضد الرأي العام، فهي التي تؤيد الحكومة، وتؤيد بعض الوزراء بأسمائهم حتى في المسائل الوطنية البحثة التي لا تتصل بسياسة الحكومة كالانتخابات. وذكر بأن الصحف الاستعمارية الفرنسية التي خاضت المعركة الانتخابية “لصالح بعض الأحزاب المصطنعة، ولفائدة بعض الوزراء، كانت تهاجم الأحزاب الوطنية وقادتها، بمنتهى الوقاحة والاستهتار بالقانون ..”.
وإذا كانت الحكومات السابقة، تتحمل جميعها مسؤولية عدم تنفيذ القانون، وفي عدم تحريم إصدار الصحف الأجنبية في المغرب، كيفما كانت حيثياتها، إلا أن الاستمرار الحكومي كان يقضي بعدم مناقشة الماضي، خصوصا وأن معظم الوزراء الذين لهم مسؤولية مباشرة في الحكومة الحالية، قد تعاقبوا على كراسي الحكم، وعلى كراسي وزراء الأنباء كأحمد رضا اكديرة (1922- 1995) وعبد الهادى بوطالب (1923 – 2009) وأحمد العلوي (توفي سنة 2002)، حسب ما أورده غلاب الذى تساءل في حوار حصري خاص ” لا أدري ما السبب الذي دعا الحكومات الأولى للإبقاء على هذه الصحف الاستعمارية، رغم أنها ظلت تعبيرا عن الاستعمار الفرنسي في عهد الاستقلال، وجندت للدفاع عن مصالح الفرنسيين”.
وفي سابع يونيو 1965، صوت برلمان 1963، في جلسة عامة، لفائدة إلغاء الصحافة الاستعمارية، بناء على مقترح مشترك من الفريقين الاستقلالي والاتحادي في 18 فبراير 1964، وهو القرار الذي جاء ساعات قليلة قبل الإعلان عن حالة الاستثناء سنة 1965، وحل البرلمان، مما حال دون دخوله حيز التنفيذ، إلا في سنة 1973، إبان حكومة الوزير الأول كريم العمراني (1919- 2018).
وبعد ذلك، قام الراحل الحسن الثاني – حسب مصطفى العلوي – بتغيير عنوان “لوبوتي ماروكان” وسماها Le Matin (لوماتان) وMaroc Soir (مارك سوار)، وأصدر قررا يقضى بتسليم ملكيتهما لمولاي أحمد العلوي، في الوقت الذي كان الأمر يقتضي بأن تفوت أملاك مجموعة “ماس” إلى أسرة الصحافة التي تمثلها النقابة الوطنية للصحافة المغربية، إسوة بما كان عليه الأمر بفرنسا، حينما أصبحت Le Monde (لومند) ملكا لجميع الصحافيين بعد فترة الاحتلال الألماني لفرنسا.

بقلم: جمال المحافظ

Related posts

Top