مسرحية “حمار رغم أنفه” بين تاريخية الرمز وآدمية الرفض

تختلف عناوين المسرح اختلافا كبيرا من حيث صيغتها، وفنيتها ومقوماتها، وبحسب هذا التنوع تتنوع الدلالات التي يمكن أن تحيل عليها أو الأثار التي تخلقها في ذهن المتلقي، قد يفكر بلمو وبنهدار في عنوان هذه المسرحية ويقر أنه في البداية، يكون موجها لأجزاء المسرحية وتوجيهها توجيها اختياريا.
فالمسرحية هي عبارة عن لعبة تشكيلية تربط بين الدال والمدلول، وبين المعنى والمبنى، وهي استراتيجية تحتوي على عنوان يتكون من الجملة الاسمية ّ”حمار رغم أنفه”، ولأن العنوان يحمل سلطة معرفية، لأنه يحتوي على هيمنة إيحائية رمزية، فلوحة الغلاف، جعلتنا نستشف أن هذا الحمار الذي يظهر من خلال هذا العنوان كبعد إيقاعي، يرتبط بهذا الكائن الحي/الإنسان. وهذه الصورة تختلف حسب اختلاف التوظيف والبناء، فهذا الكائن الواعي يعي كينونته انطلاقا من الدهشة المهادنة أمام رأس الحمار، لخلق تواصل وتحاور.
بالإضافة إلى الغلاف الخارجي، نجد بعض الآراء النقدية المبثوثة من طرف محمد أبو العلا، والطاهر الطويل وعبد الحق ميقراني، حيث تؤثث الفضاء بواسطة إرشادات مسرحية، وتمسرح كل العلامات البصرية واللسانية، وهذه الحمولة اللغوية جعلت المقدمة هي الأرضية التي تعمل على التمفصل الدرامي، والوظيفي، بعيدا عن المباشرية، فالمسرحية تضم 116 صفحة من الحجم المتوسط و11 مشهدا، حدد الأقسام أو الفواصل حيث أن كل مشهد هو عمل دلالي وإيحائي، يعيد للمتلقي براعته التأويلية. إذن يأتي هذا العنوان كنص متوازي لكونه عتبة عليا من خلالها نتج عالم النص الدرامي، وهو العلامة التي ترسم الغلاف وتميزه عن غيره، فالعنوان يحدد هوية الذات ويربطها بالانتماء إلى الأب (النص الكبير)، فتصبح العلاقة بينهما علاقة معقدة، لأن المؤلفات أضاءت لها الممرات المتشابكة دون إظهار التمرد الذاتي، أو الانشطار الجسدي “الأيروسي”، فالإشارة إلى العنونة هي إشارة إلى المضمون الحيواني المرفوض من طرف الأدبي، وهذا الرفض لم يتأسس على الدهشة، بل بقي بابا مفتوحا ينشد إلى العمق اللاعقلاني العربي، لأن السؤال هو سؤال كينوني، يقرب لنا ما للعتبات من وظائف إيحائية وتاريخية وبنيوية، وأهم مصدر لفهم ماهية المسرحية، فالعنوان “حمار رغم أنفه” له عدة وظائف تعيينية، وتأثيرية، لأننا نتلذذ بهذا الكائن المهمش، والمقصي، والفاقد للحكمة التواصلية، لا يعدو أن يكون مركزا للسخرية ووثيقة للامتلاك الفضائي، فهذه اللاشرعية جعلت بلمو وبنهدار يقربان المتلقي إلى دلالة تفصيلية مؤسسة على قدرة الكائن وكفايته الإبداعية، ضمن تاريخ الأشكال الحيوانية، وتاريخ الأنواع، والأغراض التي تؤطره في مجموعة من الاستراتيجيات التواصلية والمقصديات الإبداعية.
هذا العنوان هو المفتاح الذي به نعرف ألغاز المسرحية وإيقاعها الدرامي، علاوة على مدى أهمية البنية الرمزية التي أصبحت كأداة تعمل على قوة العنوان كما يقول كلود دوشيه، إنه نسيج نص وفضاء تشكيلي، يقوم العمل الفني ويجسد المدخل النظري لهذا المؤلف، إنه لعبة فنية تربط بين الذات والموضوع، وبين الدلالة المرجعية ودلالة المرجع.
فالعنوان لم يأت عبثا من هذا الفضاء الذي يرتبط بالزمكان، وإنما قضية إنسانية تريد أن تعيد لهذا الكائن المقصي، من الحرية الإنسانية، لأنه الأبله والأسمع، بل إن بلمو أراد عن طريق ثورة الحمار أن يؤرخ للإنسان الهامشي الزرهوني، والقروي الذي يبتلع ريق المرارة دون هوادة، وهذه الرؤية الاختيارية هي محاكمة للآخر وللواقع، لأن الكوميديا السوداء هي نقد وسخرية، وهدهدة المتلقي، من أجل معرفة وعيه الزائف المرتبط بوعي واقعي، والعنوان هو استراتيجية تذكي جذوة الاختيار المنهجي الذي يجعل الشخصيات تتحول وتتبدل حسب القول والوظيفة الإيقاعية والعلاماتية.
إن ما يجعل من هذا العمل عملا مسرحيا ودراميا بصريا، هو هذا الإنسان الذي يكون حمارا في صقل الحمل، لأن العنوان يبحث في جذوة النص عما شاء من مناصات خارجية، كالثقافات، والمجتمعات الإنسانية، حيث سيكتب لها قبول الواقع دون تضاعف مساحة الوجود، فشملت هذه الرؤية كل اّلأراضي، وأسدل الستار على هذه المهزلة التي تعيش صفة الحمار، دون تخاذل أو غش، أما الفئة التي تعلن الإفلاس الموجه لتحقيق مآربها الشخصية، بدلا من الهم القومي والصراع الطبقي، والقمع الديكتاتوري، والقضايا الأخرى السائدة، فهذه العبثية الماكرة هي تراجع وسقوط للأفكار، والقناعات التي كانت سائدة ولا زالت في الإنسان، لكن هذا الحمار هو رفض لهذه الأساليب واللاتواصل الذي يحكم إنسانية الإنسان. من هنا نطرح كيف نتعامل مع ذواتنا؟ ومتى يكون الإنسان حمارا؟ وما هي الوسيلة التي لا يستحمر بها الكائن من طرف الفرد والجماعة؟
لقد أصبح اللاشعور الإنساني هو مجال المعرفة بامتياز، نستكشف خباياه المظلمة والمقلقة، حيث تضمر بنيته تناقضات تتحكم في ذهنيته وتوجه تصرفاته شعوريا، عبر عنها أبو علي ياسين ب”الثالوث المحرم”، وهذا النوع من التوتر بين الثابت والمتحول، وبين العام والخاص، وبين الاستلاب والحقيقة، يجعل الذات رغم وجودها أمام المال الذي بواسطته لا تريد أن تسعى إلى تحولها، بل تريد أن تبقى في طبيعتها البشرية، لذلك تستحضر الرؤية شخصيات تراثية لتتحول إلى حمار، لكنه حمار ناطق يسعى إلى تثبيت الذات بغية البحث عما سماه هيدجر ب”تاريخية الكائن”.
إن رغبة الذات في سبر أغوار الكائن لفهم هذا الحمار الذي ينتجه الإنسان ويعيد إنتاجه في الزمان والمكان، بغية فهم سلطة النموذج، التي تمنعه من حل وجوده، وهذه الديمومة التي تمتد من العبث إلى اللامعقول ومن الوجودية إلى البنيوية، شكلت بؤرة اغترابية، تسعى إلى التفكير داخل إشكالية ثقافية واجتماعية، وكل ما يرتبط بمجال الكتابة والواقع، وإلى شيفرات طبقية عريقة معترف بها كما يقول الطاهر الطويل في التقديم. فالعنونة هي تفكك وانحلال، ثم تشردم وسط تناصات، حيث تفضي إلى لغات أحادية القراءة وإلى أطروحة بسيطة ونادرة. ويبقى هذا العنوان ثورة حداثية تغير اللغة الدراماتيكية، وأشكال الممارسة الإنسانية. لتبدع لنا رؤية تتعامل مع الواقع، كثنائية غير محددة، وأمكنة مفتوحة، قابلة لاستيعاب الشروط التاريخية والاجتماعية.
يجعلنا العنوان إذن نستنبط منه معطى تاريخيا وثقافيا، يتأسس على شعرية التلفظ الدرامي، فإذا ما نحن تجاوزنا هذا العنوان البراني، ليكون إشكالية محورية استيتيقية وإيديولوجية. أمكننا القول مع بلمو وبنهدار بأن الثنائية تشكل ولادة جديدة للكتابة الركحية، وقطيعة معرفية مع الماقبل، لأن حضور الرأسمال الرمزي للطبقة، كما يقول بيير بورديو، لا يتم في المسرحية إلا من خلال تعبيرها عن وعيها التاريخي بصفات الحمار. إن قراءة بلمو وبنهدار للواقع المقصي والمستلب، جعلنا نستشف الذات كحقل للإنتاج السيميائي، الذي ينسج مع الوعي الواقعي أناه، ويجعل اللغة والكتابة قيمة أساسية، يتجلى فيها عنصر الاختيار الأخلاقي، وهذا الاختيار المجالي هو الذي يموضع الكائن الحي داخل طبيعة الجنس الحيواني كما يقول هوبز. فالمسرحية تملي علينا مجرياتها وبداهتها التي تنكتب داخل الواقع، إذ لا يمكن أن نؤسس للغة النموذج إلا عبر الكينونات التي لا توجد إلا بدواخلنا، تتكلم لونين أسود وأبيض، قبح وجمال، ثابت ومتحول… فهذه الثنائيات تعيد لنا الوهم لكي يلائم الادعاءات، خارج لعبة الأيقونية المؤدلجة. تتمظهر في شكل تبعية اقتصادية متتالية، لا تدعي الحلول كبديل للمجتمع وللثقافة، وإنما تنتج وعيا ممكنا يشدنا إلى العنوان، وذلك عبر تقديم شخصيات تمتلك سريان الاحداث، في مقابل الوعي الزائف الذي يصبو إلى خلق أفق انتظار مهترئ. وهذه الشخصيات تقاوم سيف الاندفاع الرمزي، لكي تكون كذات مضاعفة تفكر في الوسائل، وتبني تاريخها المكتوب بإمدادات مظهرية، تباعد الآتي والممكن، وتجعل الاسم “الحمار” قضية كما جاء في المسرحية ص 116
“حمار! وعلاش لا
مرة صايك … مرة مصيوك
حامل من الهموم شلا
ضارب الدنيا بركله
نهار نفرح … ونهار لا
هايم ديما … ساكن من غير سكنى
حاير ديما … عايش! من محنه لمحنه
حمار وعلاش لا
في هذا المقطع يعترف الحمار بآدميته رغم المحن والمصائب التي تنتال عليه انتيال أحلام المجرمين، فيجعل من محنته محنة بشار بن برد، وأبي العلاء المعري وابن خلدون، وابن رشد. فذاته تنكتب في الواقع منذ ولادتها، ويندمج معها بفعل الانتماء كما يقول بيير بورديو. فالحمار يكون مجبرا على جميع المستويات، مدعوا إللا ترهين وتحقيق ما يسمح العمل به وفيه، وترك ما لا يسمح له. وكل خرق هو عقاب. إن خلق كائنات من ورق كما يقول رولان بارت، هو عبارة عن تعرية لهذا السائد الذي يحرم ويحلل، ويستسلم ويخون، ويتملص ويتصنع بتطويل أظافره في الخفاء، ويعاين الأحداث عن كتب كما يرى عبد الفتاح كليطو في (المقامات). فالبحث عن التجليات الذاتية هو ولوج متحول، يجعل الشخصيات تشكل خطابها انطلاقا مما هي عليه نفسيا واجتماعيا. وانطلاقا من رؤاها الدالة للعالم الحيواني والأديمي. فالمسرحية في هذا الخطاب الدرامي تسعى إلى تحرير الواقع من الذات المضاعفة، ومن كل الذوات التي تجعل وعيها في قراءة ما تصنعه وما تفعله. فهذه الذات هي وجود، ومعرفة، وقيم تؤطر ثقافتها ووعيها الإيديولوجي، من خلال مواصفاتها الطبقية. إنها رحلة سيزيفية تتحول إلى ملتقى أنتربولوجي وإنساني، وتقطع مع المعيار الأخلاقي والحواري. لأنها هي السبب والأثر. بهذا المعنى يظهر أثر الحمار في ملتقى الخطابات الإيديولوجية والاقتصادية والدينية، وفي الترابط بين الحاكم والمحكوم وبين المستغِل والمستغَل، وبين الصالح والطالح. حيث يحيلنا هذا الأثر إلى مجموع التصنيفات الرمزية التي لا تتطابق مع المناخات، ومع حدود الذوات. ويبقى الحمار مشروعا عندما نتساءل عن الأسباب التي تكمن في اختلاف مشروع كرنفالي، عن مشروع للارتزاق الطبقي. فالحقيقة عند كلاهما هو التأمل والاستبطان لهذه القوانين الجوهرية للمجتمع. فالعلاقة بين الوصول إلى التأسيس المستحيل، يفترض أن يجري البحث ليس في الذات، وإنما في هذه القرية – بين الحمار المهمش، حيث أصوات تنادي ليس بسلطة النموذج ولا الدولة، وإنما بطريقة الكرنفال الحميري لكي تعيد الأصالة إلى المعاصرة، وتزرع المستحيل في المؤتلف، لأن الموروث ينبع من الثابت والمتحول، وليس الضد. وهذه الضرورة في إعادة تعيين الشروط الخاصة بإمكانية طرح السؤال الأنتروبولوجي: كيف يستطيع الحمار أن يعي ذاته رغم أنه يتشكل انطلاقا من التوزيع الجغرافي العرقي؟ فهذا السؤال هو وجود وعي بالمنطقة المقصية التي تريد أن تعيد لذاتها تاريخها، وخصوصياتها وقدرتها على إيجاد سبل التواصل والتراسل مع الذاكرة التاريخية. إنه ربط المفاصل التي تتألف منها الذاكرة الفردانية والجماعية، بما هي وحدة بنيوية ذات وظيفة مركزية، تؤمن القدرة اللازمة للكائن البشري والمعاش. فالكاتبان طرحا الانسجام والتوازن مع النسيج الاجتماعي الراهن على صهوة الحاكم، لكي لا يخلق المواجهة والصراع، ولكي يبقى الجنس مرهونا بالبنية الواعية المتأصلة في الأرض والإنسان والوطن. فاللغة الدرامية هي بنية لا واعية تؤجل المقصي كذاكرة شعبية، لتجعل من الهامش مركزا، وهذا “التزييف” المركزي، يتعين عليه أن يكون حيويا وحضاريا، وأن يكتسب أشكالا تعبيرية، وضرورة إيحائية رمزية. بهذا المعنى فإن الحمار رغم رمزيته، فهو يتميز بالارتقاء الاجتماعي ويتحول إلى مجمل العلاقات الاجتماعية والحضارية. حيث لا يخضع للهيمنة بل يشكل نفسه عبر ضرورة الانتماء للأب الأبسي. لأن مجموع القيم التي يحملها الإنسان ليست انعكاسا للمرئي والظاهري فقط، بل إنه أصبح يعي وجوديته ورمزيته ككائن حي، يعي ذاته بواسطة ذاته، وأن فكره لا يتوحد إلا بالحوار.
إن الرمزي هو فصل ضد عولمة الآنا/الغير، وضد الاستيلاب التاريخي الذي اصطلح عليه بالتقليد الأرتودوكسي. فتاريخ العنوان لا يمكن التعامل معه بطريقة مؤرشفة، بل بكلمة تؤشر على الوجود الواعي الذي يضفي الشرعية على هذا الرمزي، ويعطي تبريرا غير منشئيا لنظام النسقي.
إن هذا المنسي ليس ككتابة إسقاطية ركحية، وليس كإعلان ميتافيزيقي مستلب، بل كشرط تواصلي بين الآنا والآخر، وبين الحقيقة والخيال، لتشكل قراءة تاريخية غير مفصلة بين الهامش والمركز والعلم والوهم. وهذا الإلغاء لمفهوم المابينية، جعل المسرحية ترصد تشكل حركة النسق الحضاري المعاصر، وذلك في شكل أشكال تعبيرية تتوصل إلى صياغة جمالية وفنية، لانها هي المصدر الجوهري الذي يستقر عليه الفكر التاريخي المغربي والعربي، والجوهر لهذا العالم الممكن، والكاشف عن أشكال التناقض في المجتمعات. وهذه المحاكمة الرمزية تمفصل بين الحياة دون انقطاعات ولا تعارضات، محاولة العودة إلى استقراء الواقع الذي هو تاريخ حاضر لا ماضي له حسب كلود ليفي ستراوس.
إن مفهوم الرمزي (الحمار) هو عبارة عن نمط لقوة الإنتاج البشري، فهو الوسيلة والمصدر وجدار للتناقض والصراع والتعبير.
فإستحضار العنوان هو إدراك للبنى البسيطة والمجتمع المنسي، لأن الحركة الإبداعية هي تحول في المسار الخطي للقيم التأسيسية التي تشكل المبدأ العمودي للنسق الثقافي والفكري. إن هذه العملية الاختيارية لهذه المسرحية هي “أورغانون” يختزل مجموع الأمكنة والأزمنة داخل اللاشعور كما يقول كارل يانغ. فالنواة المسرحية هي انطلاقة أولى في إحداث تغيير في الأحكام السائدة في حالة المحو، وبلمو وبنهدار جعلا الحياة، والكون والإنسان عبورا نحو السعادة من خلال المحاكمة الرمزية لهذا الإنسان المزدوج، وهذا الطرح هو اللاتسامي في التعيين وفي حركة الكينونة البشرية بين الطبيعي والرمزي. إن المكون الوجودي لهذا البعد الأنتروبولوجي جعلنا نرى أن الوعي الحاضر في الزمان الإنساني، فتح أفقا جديدا في شكل كينونة معاشة. فالشخصيات جعلت هذه الرؤية قابلة للمساءلة، يندمج فيهما البعد الزمكاني الذي يستحوذ على وجودنا المرئي كبنية كليانة.
هكذا عملت المسرحية على تأريخ اللحظة من حياة مجتمع ما، يكون فيه الحمار الكائن الحي هو الجلاد والضحية، الحكم والمحكوم. لأن التطور التاريخي لهذا النموذج وحده قادر على استحضار الحاضر للخروج من وهم الإقصاء.
ان المسرحية هي نسق حضاري وتاريخي، تظهر معايير التهميش وعدم إقامة ترابطات تزامنية في أشكال ونوادر.
إنها علاقة ترابطية ذات منحى معنوي محدد، بحيث أن النص الدرامي هو التعبير عن الضرورة الواقعية للوجود الآدمي. وبلمو وبنهدار كما ذكرت دعيا إلى فتح حوار مع الرمزي، لمعرفة كيف السبيل للهروب من العنف الرمزي، وكيف التخلص من الأب المفترض والإقصاء. فالعملية إذن لا تتم إلا بفعل محاكمة هذه الحضارة المعولمة، وكل الإبادات الثقافية المباشرة. لقد تميزت هذه المسرحية بعملية توليفة نقدية لهذه الأنساق الفكرية والإنسانية. ولهذا المنطق وضرورة نمط حركته الخاصة، وذلك ضمن أوالية إعادة إنتاجه لذاته كما يقول موريس غودونييه.
يكشف لنا هذا النسق الدرامي مرحلة أساسية في شكل وهيمنة الازدواجية في البناء والوظيفة، وبارتكازها على الإقصاء والعنف الرمزي الذي يكبل إرادة الفرد، ويلغي دوره في المساهمة الفكرية والثقافية، لخلق إمكانية وجودية للمجتمع الحميري الذي ينمو تاريخيا. ومن هذه البؤرة الهامشية تتولد العلاقات الأخلاقية كعلامة، تهدهد “النخب” ووكلاء المركز. لأن المسرحية تغوص في أعماق الشخصيات، مفككة البنية المهيمنة بغية تصوير بورتريه لأنماط سوسيثقافية هامشية، فالسلطة الرمزية تسخر البرامج ما قبل المحاكمة لتضمن سيرورتها وتعيد إنتاج نفسها بنفسها، إذن فالعودة إلى الذات المتكلسة والماكرة، لا تكشف عنها إلا بواسطة العلائقية القائمة على النفسية والوسائطية. ومهما يكن من أمر، فالعنوان هو عبارة عن نص موازي، وفضاء تشكيلي، يربط بين الذات والواقع، ونسق فكري يرفض كل تجربة لا تستند على مبادئ النقد. فبلمو وبنهدار أكدا على هذه العتبة كمقاربة نقدية، لأنها تسترشد بعلم السرد، وتفرض نوعا من التحليل النقدي والتأويل المقصدي. إنها “المسرحية” هي بداية النهاية، تجعل الحمار في العنوان وتختمه في الأخير بأغنية علاماتية، تحول المنتوج الأدبي إلى سلعة رمزية قابلة للتداول. هكذا استطاع بلمو وبنهدار أن يضعا سندا شرعيا يثبت ملكية الكتابة لمحاكمة الواقع على الركح.
فهنيئا بهذا المولود المسرحي الجديد المسمى “حمار رغم أنفه”.

> بقلم: بوعلي الغزيوي

Related posts

Top