مطربونا الرواد.. بين الغياب والتغييب

يبدو حضور المطربين المغاربة الرواد في ساحتنا الفنية شبه منعدم، رغم أنهم لا يزالوا على قيد العطاء والإبداع، من النادر أن يتم الالتفات إليهم ودعوتهم لإحياء حفلات خاصة بكل واحد منهم على حدة.
هذا الوضع ترك الساحة فارغة لعينة من المطربين، لم يضيفوا أي شيء للأغنية المغربية، عدا كونهم انحرفوا بها عن السكة الصحيحة، اعتبارا لأن منطلقهم لم يكن إبداعيا محضا، بل الرغبة في الكسب المادي، إلى حد أن الفن صار مهنة من لا مهنة له.

****

العديد من الفنانين الأصيلين يكاد يطويهم النسيان، كما أن الأجيال الحالية لا تكاد تعلم بوجودهم، سيما وأن ألبوماتهم الغنائية لم تعد رائجة في السوق منذ زمن بعيد، ولم تعد تتاح لهم الفرصة لتنشيط حفلات غنائية عمومية، تراعي وضعهم الاعتباري والرمزي، ومما فاقم هذا الوضع، عدم انفتاحهم على التكنولوجية الرقمية.
هذه الظروف كان لها تأثير بكل تأكيد على حركتهم الإبداعية، حيث أن منهم من توقف عن الغناء منذ فترة ليست بالقصيرة، ومنهم من يتوفر بالفعل على إنتاجات جديدة لكن الواقع لم يعد يشجعهم على تسجيلها، نستحضر منهم على سبيل المثال: محمود الإدريسي، عبد الوهاب الدكالي، عبد المنعم الجامعي، نادية أيوب، نعيمة سميح، فتح الله المغاري، حسن القدميري، محمود ميكري، يونس ميكري.. وغيرهم، هؤلاء لم يرحلوا بعد عن دنيانا- متمنياتنا لهم بالعمر المديد- كما أنهم لم يعلنوا اعتزالهم، لكن لم نعد نرى لهم حضورا في الساحة الفنية الغنائية.
نتيجة لغياب تلك الأسماء، بات من الملاحظ انحراف للأغنية المغربية، هناك تقهقر ملموس، على مستوى مختلف عناصر إبداعها: اللحن والقاموس اللغوي وحتى الأداء.
يمكن القيام بجرد لحصيلة الأغنية المغربية خلال العشرين سنة الأخيرة، للوقوف على مدى التحول الذي طرأ على هذه الأغنية بشكل سلبي.
لعل من مظاهر هذا الخلل، السرعة في الإنتاج والانتشار، بالنظر لما باتت تتيحه التكنولوجية الرقمية من إمكانيات لم يتم مع الأسف استغلالها بالشكل السليم؛ فهذه التكنولوجية يجب أن تكون في خدمة الإبداع وليس العكس.
الظروف التي يجري فيها إخراج نسبة كبيرة من الإنتاجات الغنائية المغربية الحديثة، لا تمت بصلة إلى الهاجس الإبداعي.
النصوص يتم تأليفها من طرف أسماء نكرة، وتحت الطلب، وبدون أن يكون ذلك نابعا من تجربة ومعاناة، ذلك أن الدافع في الغالب يكون وعدا بتعويض مادي وبامتيازات مرتقبة.
أحد المطربين أقر بأنه خلال إحدى جلسات المقهى، تناوب كل واحد من جلسائه على إلقاء جملة شعرية – إذا جاز الحديث عن شعر في الأصل- وتم جمع تلك الجمل في ذات اللحظة وبالتالي صناعة أغنية جديدة، علما بأن اللحن كان جاهزا من قبل. لنا أن نتصور كيف سيكون المستوى الفني لعمل غنائي جرى إخراجه على هذا النحو وفي مثل هذه الظروف.
هناك تشابه على مستوى اللحن، بين مجمل الأعمال الغنائية التي أنتجت خلال الفترة الآنفة الذكر، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى غياب الاجتهاد، فضلا عن أن كل واحد من أصحاب هذه الأغاني يسعى إلى الركوب على نموذج معين سبق له أن حقق نجاحا، وإن كان هذا النجاح غير مبني على ركائز متينة، بدليل أنه لم يعمر طويلا، كان مرتبطا بموسم، ولهذا شاعت عبارة: أغنية الموسم. علما بأن الزمن الافتراضي للموسم هو سنة واحدة أو نصف السنة أو ربما أقل من ذلك.
خلال هذه المدة، تكتسح الأغنية الساحة داخل الوطن وحتى خارجه، وتلوكها الألسن وترتفع نسبة متابعتها على شبكات الأنترنت ووو… ثم بعد ذلك تنطفئ فجأة ولا تعود الأذن تحتمل الاستماع إليها، على خلاف مجموعة كبيرة من الأعمال الغنائية القديمة التي ما زلنا نطرب لسماعها، أغاني أنتجت في الستينيات والسبعينيات وحتى قبل ذلك. رحل أصحابها، لكنهم ظلوا حاضرين بيننا بروائعهم الخالدة، في حين أن العديد من الفنانين المعاصرين نجدهم حاضرين بثقلهم الجسدي وبنجوميتهم، في حين أن إنتاجاتهم تتبخر بسرعة.
فنانونا الرواد الذين لا يزالون قادرين على العطاء، سواء من الجيل الأول أو الجيل الثاني، فضلوا النأي بأنفسهم عن هذا المشهد الفني الذي أصابه التلوث، باستثناء القلة القليلة منهم التي لا تزال تناضل من أجل الحفاظ على صورة نقية للإبداع الغنائي المغربي، غير أن إنتاجهم – يا للمفارقة – لا يحظى بالانتشار المطلوب، كما أن شركات الإنتاج الكبرى لا تتعامل في الغالب مع هذا النوع من الفن الراقي، اعتقادا منها أن عامة الجمهور لا تقبل عليه، كما أن إدارات العديد من المهرجانات الفنية، لا تدعم الأصوات الغنائية الرائدة، من منطلق أن ما تنتجه بات متجاوزا، وبالتالي ينصب اهتمامها على جيل لم يحقق الإضافة النوعية المرجوة، إلا في حالات نادرة واستثنائية.
ومن اللافت للانتباه أن إذاعاتنا الوطنية، وبالتحديد تلك التابعة للقطاع الخاص، قسم كبير منها، لا يولي الاهتمام بما أنتجه روادنا من أعمال غنائية، يمكن القول إن الخط التحريري لهذه الإذاعات يتأسس على وضع قطيعة مع تلك الإنتاجات والانفتاح كليا على ما تنتجه الأصوات الجديدة، وحتى عندما يتذكرون نماذج من الأعمال الرائدة، يتم العمل على تقديمها بغير أصواتها الأصلية، وفي أحيان أخرى بتوزيع موسيقي جديد، وهذا سلوك غير بريء.

****

مما لا شك فيه أن علاقة الفنان بفنه وإبداعه، هي علاقة وجودية، وبالتالي لا نتصور أن غياب نخبة من فنانينا الأصيلين عن الساحة الفنية، تم عن طواعية وعن طيب خاطر، بل بمضاضة، من هؤلاء من اختار الغياب ومنهم من تعرض للتغييب.

> بقلم: عبد العالي بركات

Related posts

Top