مقاربة لرواية «من الداخل… كلام آخر!» للكاتب المغربي عبد العالي أناني

عندما تفرض ظاهرة اجتماعية نفسها، وتصبح حديث الخاص والعام، وينشغل بها الإعلام بكل أصنافه وأشكاله، وبكل أطيافه، وتغدو كذلك مجالا للتشريح والتحليل، من قبل أخصائيين حقيقيين وأشباههم المتطفلين.
ولنفترض أن هذه الظاهرة هي التطرف أو الإرهاب، وأن من يرغب في تناولها، ليس إعلاميا ولا متخصصا في علم النفس أو الاجتماع، أو دارسا ومهتما بتاريخ ونشأة وتطور الإرهاب، والأسباب والدواعي المؤدية إلى بروزه، بل من اختار ملامسة الظاهرة من منظوره الخاص، هو أديب ومبدع، له إلمام أيضا بكل التخصصات التي ذكرنا، لكن مجال اشتغاله مختلف تماما، وإذا مال لواحد منها، فلكي يأخذ منها فقط، ما يخدم عمله الإبداعي.
وبحكم ان الأدب كذلك، هو تعبير عن المجتمع، فلولا المجتمع لما كان هناك أدب في الأصل، بمعنى أن المبدع واحد من أفراد هذا المجتمع، يتأثر بما يتأثر به بقية أفراده إن سلبا أو إيجابا، وفي كافة مناحي الحياة .. كما يذهب إلى ذلك نقاد ودارسو الأدب، اعتمادا على المنهج الاجتماعي، الذي برز كحركة نقدية موجهة للأب، في مستهل القرن التاسع عشر ..
كيف سيتناول المبدع إذن، هذه الظاهرة التي ارتبطت في أذهان الناس، بالأحزان والفواجع والمآسي؟ في عمل أدبي من سماته، إطلاق العنان للخيال أو التخييل، وإمتاع القارئ، في الآن ذاته.
اختار عبد العالي أناني لروايته، عنوانا دالا بحمولته، مكون من شبه جملة بأربع كلمات : “من الداخل .. كلام آخر !” وكان بالإمكان مثلا، أن يكون العنوان بالكلمات الأربع ذاتها، لكن بجملة اسمية عوض شبه جملة، فيصبح كالتالي : “كلام آخر .. من الداخل !” لكنه آثر الأول على الثاني، الذي يمنح وقعا قويا للعين القارئة والعقل المسجل ل : “كلام آخر”، عندما تأتي في ختم شبه الجملة، ويكون وقعها أقل أثرا، عندما تكون في مفتتح الجملة الإسمية.
تتكون الرواية من 126 صفحة من الحجم المتوسط، زُيـﱢن غلافها بلوحة تشكيلية بديعة للفنانة المغربية : شمس صهباني. ونتتبع عبر فصولها العشرة مسار سعيد، الذي يروي ويحكي الأحداثعلى لسانه، بدءا من فترة الاستغناء عن خدماته، بإحدى الشركات بشهر قبل انتهاء مدة العقد معها.
“انتهى عملك بالشركة، يمكنك المرور عند المحاسب في أي وقت تشاء. الجمعة القادمة آخر يوم لك في العمل هنا بالشركة، والمدة التي تظل في العقد اعتبرها إجازة سنوية مهداة لك من الشركة.”ص 10.
فصل سعيد من عمله، بسبب مواقفه ودفاعه عن المستخدمين، وتكوين مكتب نقابي بالشركة. وإدارتها كانت تنتظر بأحر من الجمر، اقتراب انتهاء مدة العقد المحددة في سنتين للتخلص منه، لأنه أصبح يشكل خطرا على أرباب الشركة، كما أخبره الفراش العم حمزة، وهو يقدم له آخر فنجان قهوة، سيحتسيه بالمكتب.
لم يكن الطرد من العمل هو آخر المصائب، التي حدثت لسعيد، ولكن رفض الشركة كذلك منحه شهادة إدارية، عن المدة التي قضاها بها، مما سيصعب لديه فرصة إيجاد وظيفةأخرى.
من هنا ستدخل حياة سعيد منعطفا جديدا. ومع ذلك لن يخبر أسرته بما جرى له، وسيواصل مغادرة البيت كل صباح، متأبطا كتابا أو مجلة في اتجاه مقهى بآخر زقاق، محاولا الخروج من حالتي القلق والإحباط، اللذين يطوقانه.
“حقيقة لم أعد أعرف ماذا علي أن أفعل؟ أعادني الملل إلى التدخين، أصبحت أخاف على نفسي من التذمر والانهيار من جراء التفكير، والجلوس لساعات طوال في المقاهي. لم يكن من طبعي الارتباك، لكنه جعل من المقربين مني ينظرون إلي وكأنني مريض أعاني من شيء ما”..ص 21.
رغم ما كان يغور بدواخل سعيد، فلم يبحبشيء من معاناته لزبناء المقهى. وكان يتدمر من واحد منهم، يدعى عمر، إذ كان غريب الأطوار، يبالغ في التودد والترحاب لبعض مرتادي المقهى، بما فيهم سعيد الذي صده غير ما مرة، عندما كان يحاول التقرب إليه، لكنه لان في النهاية وردخ له، إذوافق على مرافقته في سفر استجمام إلى جنوب البلاد.سيظل سعيد يتبع خطى عمر، في هذا السفر الملغوم، إلى أن يجد نفسه في معسكر أو مخيم لجماعة متطرفة، وهذا هو المنعطف أو المسار الجديد الذي أشرنا له سلفا، بل الحياة الجديدة التي جاءها سعيد مشيا على رجليه، ولم يعد مهما إن أُرغم على ذلك أم تم التحايل عليه.
في يومه الأول بالمخيم سيلتقي شخصين يخبرهما ويعرفهما جيدا، كانا قد اختفيا من الحي والمحيط، دون أن يعرف أحد مصيرهما، إلى أن كتب له أن يكتشف سرهما. يتعلق الأمر بشاب متهور يموت عشقا في موسيقى «الهيب هوب»، ثم بشخص انتهازي ووصولي، مشهور بترحاله بين الأحزاب، ليصبح بقدرة قادر أمير الجماعة المتطرفة.
في المخيم سيفاجأ بكثرة الشباب المغرر بهم، من بينهم خالد وهيثم وليث، الذين صحت ضمائرهم وغدوا رافضين للأفكار المتطرفة، دون التصريح علانية بذلك، لما سيشكله من خطورة على حياتهم.
هذه العينة من الشباب ما كانت لتتواجد هناك، لو وجدت آذانا صاغية متفهمة، بالمدرسة والثانوية والجامعة، أو صادفت من يطلق العنان لمواهبها، في الرسم والنحت، والموسيقى والمسرح، ولم لا الإبداع الأدبي والفني، بل لو حالفها الحظ في ملاقاة من يحفزها على القراءة والمطالعة، على أقل تقدير.
صحيح أننا بصدد الحديث عن شخصيات من نسج خيال الكاتب. لكن أليست مشابهة ومطابقة، لتلك الفئة من الشباب، التي يغرر بها وتشحن أدمغتها بفكر يقود صاحبه إلى تدمير الذات والغير ؟ ..
لقد أفلح عبد العالي أناني، من خلال منجزه الروائي «من الداخل… كلام آخر!»، في رسم الشخصيات رسما محكما ودقيقا، واجتهد كذلك في الأوصاف التي أضفاها عليها، الرئيسية التي سترافقنا طيلة فصول أو مقاطع الرواية، بل حتى الثانوية منها والعابرة أخذت نصيبها من الاهتمام.
وقد يكتشف القارئ، أنه يعرف أبطال هاته الرواية، لأنه يصادف أمثالهم كل يوم ويتعايش معهم. ولأن هؤلاء بكل بساطة وكما أشرنا سلفا، وإن بصيغة أخرى، لم يخلقوا متطرفين. تماما كما لا يخلق المنحرف منحرفا، ولا المجرم مجرما.
فالشابة سعاد ذات المستوى الجامعي، التي سيزوجها الأمير لسعيد، وإن كانت شهامة هذا الأخير، لم تسمح له بلمسها أو اعتبارها زوجة له، لأنه لم يخترها ولا هي اختارته. عندما تجد الفرصة سانحة، ستنفجر من داخل ذاتها بكلام آخر..
“اعتدت على العيش من غير أن يؤخذ برأيي. لم يؤخذ برأيي حين جيء بي للمخيم. لم يؤخذ برأيي حين كنت أُقدمهبة للوافدين الجدد. لم يؤخذ برأيي في نوعية اللباس الذي كان يرمى لي كصدقة لجارية، بها قضى زيد وطرا وعمرو وقاسم ووو..”ص 111.
بل حتى أحد أعتى وأقوى وأوفى حراس الأمير، كان له كلامهالآخر، الذي نفخ به من داخل صدره، في لحظة مساومة للتراجع عن الأفكار والمبادئ، التي تلقى أسسها بالمخيم.
“عشت حياتي وحيدا مضطهدا بين البشر، حين كنت صغيرا الأسرة التي كانت تؤويني استغلتني في التسول والسرقة، وغالبا ما كنت أغتصب بالعنف. هذا ما تعنيه لي الأسرة. حتى الأسر الأخرى التي عرفتها صغيرا كانت تمنع أطفالها من اللعب معي. كنت أُبعد ككلب أجرب أو أُضرب…” ص 115.
إن هذه النماذج البشرية المنتقاة من الرواية، التي غرر بها والتي تم استقطابها إلى المخيم، لشحنها بأفكار متطرفة، تضرب بعرض الحائط مبادئ ديننا السمح والمعتدل، التي تربينا على أسسها ببيوتنا ومدارسنا، ما كانت لتقع في مصيدة الأمير وأتباعه، لو احتضنها المجتمع وأنصت إليها، وواكبها لتحقيق ما تطمح إليه.
فلم يكن سعيد يطمح إلا في إيجاد عمل يلائم قدراته ومؤهلاته المعرفية والميدانية. وحب هيثم للموسيقى كان يلزم أن يترجم إلى دراسة وتكوين لصقل موهبته الفنية. بينما الحارس الوفي للأمير، لو توفرت له حياة كريمة في طفولته، لما تحول إلى وحش يهدد سلامة المجتمع عوض خدمته. وقس على ذلك بالنسبة لفئة عريضة من شبابنا، تدفعها قلة ذات اليد، أو التهميش والإحساس ب “الحكرة”، أو الشعور بألا أحد يفهمها، ويحسن التواصل معها .. هذه بعض من عوامل شتى تجعل هذه الفئة العمرية، تسقط بسهولة في حبائل ناشري الأفكار الظلامية.
وحده الأمير من ضمن هؤلاء، لا يمكن اعتباره ضحية ظروف ما، فهو جرب البحث عن ذاته في أكثر من حزب، دون أن يصادفها، وربما ميله للزعامة، جعله يختار نضالا غير سوي وغير قانوني، من وراء الجيل، عوض نضال من داخل صفوف حزب له مشروعيته القانونية.
كتبت هذه الرواية بلغة أدبية أنيقة وشفافة، تشرح حين يدعو الموقف إلى ذلك، وتلمح حينا آخر، والحكاية فيها مبنية بناء فنيا محكما، تتطور الأحداث بشكل أفقي وتصاعدي، التشويق حاضر فيها بشكل جلي، خاصة في الفصول التي استغرقتها عملية الهروب، وكذلك التي سبقتها، أي أثناء الإعداد له.
إذا صح أن نعتبر الرواية، مثل السينما هي فن تجميل الواقع، فقد برع كاتب «من الداخل… كلام آخر!»، في أن يمتعنا ببراعة و جمال وصفه، للطبيعة الخلابة والأخاذة بالفضاء الذي اختارته الجماعة المتطرفة، مخيما أو معسكرا لها، دون أن تقصد أو تنتبه لذلك. فلربما لو استشعرت قيمة الطبيعة به، لثارت على فكرها المكتسب شرعيته من القوة والعنف، وانقلبت عليه. برع سعيد بصفته السارد والراوي العارف، كذلك في وصف الفضاءات الطبيعيةالأخرى، التي ستمر عبرها قافلة الفارين. حيث يحضر الجبل بعلوه وشموخه، والغابة بكثافتها وبسحرها وجمالها ليلا، رغم الأصوات المخيفة لبعض الحيوانات من أماكن بعيدة. ولا تستقيم غابة أو جبل دون جريان ماء واد بينهما، يبهج القلب والروح، حتى مع تحول هدوء هذه الطبيعة، عند مباغثتهابرياح هوجاء وأمطار غزيرة، مصحوبة بالبرق والرعد، تظل محافظة على رونقها، بفضل فنية وجمالية الصورة التي نقلها إلينا السارد.
إن عبد العالي أناني، الذي عرفه القارئ كناقد، أنجز مجموعة من الأوراق التحليلية والدراسات النقدية، حول دواوين وأضمومات شعرية، وحول روايات ومجاميع قصصية، وحول مسرحيات كذلك. وهي الكتابات التي نشرت بمنابر إعلامية عدة. ها هو اليوم يقتحم بخيلاء ساحة الأدب والنشر، عبر إصدار باكورته الأولى «من الداخل… كلام آخر!».وهي الرواية التي تأسر القارئ منذ الاستهلال الأدبي البديع، ذي الأسطر التسعة بالصفحة الخامسة. فما أن ينتهي من قراءته في رمشة عين، حتى يجد نفسه قد تورط في تتبع خيوط الأحداث والفصول اللاحقة لهذا العمل السردي، الذي أوفى للاجتماع حقه، ولم يكن ذلك على حساب الأدبي والفني، فكما لاحظنا، فقد سارا معا، جنبا إلى جنب منصهرين، الواحد منهما يدعم ويعضد ويكمل الآخر.

هامش:
صدرت رواية : “من الداخل .. كلام آخر ” لعبد العالي أناني، عن مطبعة : بيبلي روك بالدار البيضاء، شهر أكتوبر 2020.

> بقلم: عبد الحق السلموتي

Related posts

Top