مليكة البلغيثي.. عالمة السوسيولوجيا التي أزعجت القوى المحافظة

أكدت السعدية بوفتاس أستاذة مادة الفلسفة، عضوة الشبكة الدولية للنساء الفيلسوفات، أن إيمان مليكة البلغيثي بضرورة العمل المنهجي لتغيير العقليات، وقناعاتها اليسارية، جعلا منها عالمة متميزة في مجال السوسيولوجيا، ومناضلة جسورة لم تأبه للضغوطات والمحن.
وقالت السعدية بوفتاس، في اللقاء الذي نظمه فضاء أطر حزب التقدم والاشتراكية بالدار البيضاء، الأربعاء الماضي، وأداره عبد الرحيم بنصر عضو الديوان السياسي للحزب، إن تحليل دراستين أجرتهما البلغيثي حول نساء “اجبالة”، وحول نساء “تاساوت”، يقدم صورة لامعة لباحثة سوسيولوجية ومناضلة في حزب التقدم والاشتراكية لم تقتصر على التشخيص الميداني لأوضاع النساء، بل انخرطت في الفعل السياسي في ظروف العمل السري القاسية.
ولم يكن انزعاج القوى المحافظة ظرفيا ولا مرتبطا بعمل مستقل في الزمان والمكان، تقول الأستاذة السعدية بوفتاس، في مداخلتها خلال هدا اللقاء الذي يسبق التدشين الرسمي للمقر الجديد للحزب، بل كانت هذه القوى الرجعية تخشى هذه الشابة المنتمية لحزب التحرر والاشتراكية ءانذاك وتهتز رعبا من فكرها التنويري الحداثي الذي لا يتوانى عن نشر أفكار تدعو لاحترام الحريات الفردية والجماعية.
لقد اختارت البلغيثي، تقول الأستادة بوفتاس في هدا اللقاء التعريفي الذي حمل موضوع “قضايا النساء من خلال الأعمال السوسيولوجية لمليكة البلغيثي”، مجال المرأة، أو بالأحرى وضعيتها، ونسبة المساواة بينها وبين الرجل…، لأنها كانت تدرك أن “هذه المرأة التي تعتبر نصف المجتمع هي من بين المؤشرات التي أصبحت المنظمات تعتمدها في قياس مدى تقدم أو تخلف مجتمع معين، ولذلك اختارت الحديث عن المرأة كأبرز فاعل اجتماعي في الوسط القروي يظهر مدى تخلف هذا المجتمع”.
ولأجل إظهار ذلك، تضيف بوفتاس، كان لابد من تحصيل معرفة سوسيولوجية حول وضعيتها، وأعمالها، ومهماتها، وأدوارها داخل المنزل وخارجه، وكذا علاقتها بالوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه، وبالخصوص علاقتها بالأسرة، حيث نخلص من خلال دراستين للبلغيثي بمنطقتي “اجبالة” و”تاساوت”، تضيف المتحدثة،  إلى أن “الفتاة القروية لا تعرف مرحلة المراهقة، بل تعبر مباشرة لمرحلة الزوجة والأم، (55 % من الفتيات القرويات يتزوجن قبل مرحلة البلوغ، و44 % مباشرة بعد بلوغهن)، كما أن الخصوبة لدى المرأة القروية ليست وظيفة بيولوجية وطبيعية للمرأة المتزوجة، بل إنها عامل محدد وحاسم في الوزن الرمزي الاجتماعي الذي تشغله داخل الأسرة، كما تتنوع أشكال معاقبة المرأة القروية، فقد يكون العقاب جسديا، مجسدا في الضرب، وقد يكون رمزيا مجسدا في حرمانها من زيارة أسرتها واقتناء بعض احتياجاتها الخاصة، أو إرسالها لمدة قد تطول أو تقصر إلى بيت أهلها، وترجع أسباب ذلك في عدم طاعة المرأة للزوج أو لسذاجتها وعدم حسن تصرفاتها “14”،  زد على ذلك كل ما يوكل للمرأة من مهام، تكاد تكون هي من يقوم بكل شيء، بدء من تربية الأطفال إلى شؤون البيت، ثم ما يجب كذلك أن تقوم به خارج البيت من زراعة وحرث وحصاد وتربية الماشية، إلى غير ذلك من الأعمال الموكلة لها والتي تبقي حال المرأة متدنيا في نظر المجتمع القروي، ومن تم البقاء على توفير أهم شرط من شروط تخلف المجتمعات”.
لقد كانت البلغيثي، تقول الأستاذة بوفتاس، تدرك مدى الاهتمام العالمي بالمجتمعات القروية وبمشكلاتها وبظواهرها، وأدركت عن طريق أستاذها بول باسكون أن المجتمعات الغربية لا تسعى لوضع آليات واستراتيجيات للنهوض بالمجتمع القروي وحل مشكلاته المزمنة دون هدف، بل لكونها تعلم أن القرية والمرأة القروية تلعب دورا هاما في حياة تلك المجتمعات.
لذا، تضيف المتحدثة، اندفعت مليكة البلغيثي في هذا السبيل أيضا، واضعة نصب عينيها الفجوة التي لا تنفك تتسع، ليس فقط بين القرية والمدينة، بل أيضا بين الرجل والمرأة، فسارعت الباحثة السوسيولوجية إلى تحديد ملامح تخلف المرأة في القرى والدواوير النائية، غير عابئة بمكائد القوى الرجعية ولا بالأجواء المشحونة التي كان المغرب يعيشها قبيل انقلاب الصخيرات.
فكان أن استغلت هذه القوى الرجعية ملف ما يعرف بـ “مجموعة 33” ، “لتزج بالرفيقة البلغيثي في غياهب السجون”، يقول محجوب آيت غنو، عضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية، في شهادة مؤثرة، استرجعت عقارب الزمن إلى صيف 1969، لحظة لقائه بها وهو لا يزال تلميذا منضويا لتوه تحت لواء التحرر والاشتراكية.
لقد وظفت مليكة البلغيثي، يقول محجوب ايت غنو، كل جهدها وطاقتها للتجوال في  الأرياف والجبال للعيش وسط الفئات النسائية المحرومة والمستغلة قصد معرفة ظروف عيشهم والوقوف على الأسباب الكامنة في البنية الاجتماعية المنتجة لهذه الأوضاع قصد العمل معهم لتنويرهم وحثهم على الانخراط في النضال من أجل تجاوز أوضاعهم المزرية.
لم تقتصر البلغيثي على التشخيص الميداني لأوضاعهن، يضيف آيت غنو، بل انخرطت في الفعل السياسي في ظروف العمل السري حاملة شعلة التنوير لهذه الفئات عبر الحلقات التوعوية والتأطيرية لتجاوز أوضاعهن، وأدت بذلك ضريبة الاعتقال والتعذيب الوحشي.
ولم تنل الاعتقال والإهانات التي تعرضت لها، يضيف المتحدث، من عزيمتها في الاستمرار في النضال على الجبهتين العلمية والسياسية، حيث واصلت لقاءاتها مع النساء المستضعفات، وظل قلمها يدون البحوث السوسيولوجية والميدانية التي كانت تنشر في العديد من المجلات، وعلى صفحات متخصصة لجريدتي البيان مند سنة 1972، كانت تشرف عليها شخصيا.
كل هذه الجهود في القرب والإنصات ثم التدوين، جعلت أبحاثها، يقول الأستاذ عبد الله حرزني، في شهادة تلاها عبد الرحيم بنصر، قوية ومتماسكة، تذهب رأسا لبنات جنسها لاستنهاض هممهن، فكانت بالتالي شعلة التنوير للنساء القرويات، وسراجا منيرا للتوعية والتأطير والإيمان بمغرب مغاير لا يمكن بلوغه دون النضال والعمل الميداني والتشبع بقيم الحداثة والتقدم.
ورغم ضريبة السجون والمعتقلات والتعذيب الوحشي، ازدادت عزيمة مليكة البلغيثي لمواصلة العمل على الجبهتين العلمية والنضالية، وعدم الاكتفاء بموقف المتفرج، يضيف عبد الله حزني الذي كان زميل البلغيثي ضمن الخلية التي أحدثها بول باسكون.
ولم يفت حرزني أن يتقدم لفضاء حزب التقدم والاشتراكية للأطر بالشكر على الاحتفاء بـ “باحثة ملتزمة ومناضلة مقدامة”، معتبرا لقاء ليلة الأربعاء، “استحضارا لعطاء البلغيثي في الميدان العلمي وكفاحا لمناضلة في حزب التقدم والاشتراكية بجانب الكادحين وخصوصا النساء من أجل الانعتاق والتحرر من براتين الاستغلال”.
وقد شهد اللقاء نقاشا موسعا حول مغزى عطاءات مليكة البلغيثي، من خلال استحضار دراستين لها،  حيث أجمع الحضور على أن البلغيثي كعالمة سوسيولوجية وكمناضلة في حزب التحرر والاشتراكية، ثم التقدم والاشتراكية،  آمنت واقتنعت مبكرا أنه ليس بالبحث العلمي وحده  يتحقق التغيير، بل دمجت فكرها بالممارسة في علاقة تفاعلية دائمة لم تكن بالهينة في ظروف كان النضال والالتزام السياسي مرادفا للقمع والاعتقال والإهانة.

مصطفى السالكي

Related posts

Top