من أجل إحياء أدب التراسل

بادرة طيبة تلك التي أقدم عليها أحد أصحاب محلات بيع الكتب، حيث قام بعرض الكتب الخاصة بأدب التراسل دون غيرها، على الواجهة الأمامية لمحله، كان ذلك بمثابة شكل من أشكال التحسيس بأهمية هذا النوع الأدبي وبالتالي الدعوة إلى الإطلاع عليه.
عدة ملاحظات يمكن أن نسجلها بخصوص هذه البادرة، أولها أن المحل المذكور يوجد خارج المغرب؛ مما يعني أن المبادرات الذكية والمبتكرة عادة ما يقوم بها الآخر ويكون سباقا إليها.
الملاحظة الثانية، أن الكتب المعروضة في الواجهة، هي من إبداع مواطني ذلك البلد، فلو حاولنا نحن بدورنا أن نقوم بالمبادرة نفسها، فربما قد لا نجد العناوين التي يمكن أن تملأ صفا واحدا، مما يدل على أن تقاليد كتابة الرسائل وتبادلها بين الكتاب والمبدعين في ما بينهم، والعمل على نشرها في ما بعد، غير مترسخة في حياتنا الثقافية.
إن القيام بعرض الكتب الخاصة بأدب الرسائل دون غيرها، مبادرة ذات دلالة رمزية، اعتبارا لأنه في وقتنا الراهن، باتت تقاليد التراسل بالمعنى الحقيقي للكلمة، شبه منعدمة، بالنظر إلى الثورة التكنولوجية التي طرأت على مستوى الاتصال.
من قبل، كنا نكتب على الورق، وكنا نجتهد في التعبير بروية وعمق عن أحاسيسنا وعواطفنا وتجاربنا في تواصلنا مع الغير، وكان يتطلب هذا النوع من التواصل وقتا غير يسير ليتحقق، مع ذلك كنا سعداء ومرتاحي البال، نترقب صندوق البريد أن يحمل لنا الجديد، وتغمرنا السعادة حين نلمح الظرف الأصفر الجذاب والفاتن؛ فنسارع إلى فتحه لمعرفة ما يحمله من أسرار ومفاجآت، بخلاف اليوم، حيث البريد الالكتروني وصفحات التواصل الاجتماعي، لم تعد تتيح المجال للتأمل وللتعمق في الكتابة. قد تصلك في لحظة واحدة عدة رسائل من عدة مدن لا بل من عدة بلدان، وعليك أن تجيب عنها كلها في الحين، وإلا ستتم مؤاخذتك على عدم قيامك بذلك، وربما تم حذف اسمك من قائمة الأصدقاء، وحظر حسابك.
لقد انتفى خط اليد، ونحن نعلم ما يحمله هذا المعطى من أهمية ودلالة، وبالتالي فإن حروف الطباعة نزعت تلك الشحنة العاطفية من كتاباتنا، صارت هذه الكتابات تبدو باردة ومتشابهة، وإن تعددت الأساليب التعبيرية.
سأسمح لنفسي بالتحدث حول تجربة شخصية لها ارتباط بالموضوع، ففي أواخر التسعينات، اتفقت مع بعض الأصدقاء الأدباء على تأسيس ما أسميناه آنذاك مجموعة البحث في أدب الرسائل، مجموعة تهدف بالأساس إلى توثيق مختلف الإنتاجات ذات الصلة، وتعميق النقاش حولها، إلى غير ذلك من الأهداف التي تصب في خدمة أدب التراسل، غير أنه حدث خلاف بيننا، حول أمور بسيطة وتافهة جدا، لم أعد أذكرها، وانشغل كل واحد منا بشؤونه الخاصة، وتم بذلك تجميد المشروع، مع ذلك فما زالت هناك حاجة إلى هذا النوع من الجمعيات، وما زال هناك الشيء الكثير لإنجازه من أجل هذا النوع الأدبي الذي يجمع بين المتعة والفائدة.
لا شك أن العديد من أدبائنا ومبدعينا يحتفظون برسائل تبادلوها مع غيرهم، ولا شك أن هذه الرسائل تستحق أن تنشر وتقرأ، بالنظر إلى القيمة الرمزية والاعتبارية لأصحابها، وبالتالي لا بد من التفكير في منهجية معينة لإنقاذ هذا الكنز من الضياع.

عبد العالي بركات

Related posts

Top