من أجل المستقبل..  بلا توجس أو التباس 

النقاش بشأن القاسم الانتخابي وبقية القوانين المتصلة بالإعداد للاستحقاقات القادمة، وأيضا ما أثير مؤخرا حول التعويضات على المهام التمثيلية والانتدابية، والجمع بين أكثر من مهمة ضمن هذا السياق، هو نقاش ليس تقنيا مجردا، وإنما يرتبط بالسياسة عمقا ومضمونا وأفقا وأجرأة، ومن ثم يجب أولا وضعه ضمن إطار السعي إلى إصلاح وتأهيل فضائنا السياسي الوطني ومنظومتنا الانتخابية والمؤسساتية، وإلا فسنكون في وضعية تكرار سجالات عقيمة أثيرت من قبل، أو بصدد افتعال ملهاة شعبوية لن يكون لها أي امتداد أو أثر.
الجميع يلاحظ اليوم أن هذا النقاش، سواء داخل البرلمان أو بين الأحزاب او عبر الصحافة وفِي مواقع التواصل الاجتماعي، ينطلق من موقف التوجس، وأيضا من الحرص على توجيه المخرجات لتحقيق هدف نتخابوي لصالح هذا الطرف أو ضد الطرف الآخر، علاوة على سيادة أسلوب نفخ الأوداج والصياح ورفع سقوف الديماغوجية، والحال أن بداية التأسيس لحوار سياسي موضوعي بهذا الخصوص، يجب أن تنطلق أولا من تأطير الموضوع ووضعه في السياق السياسي الحقيقي..
قبل ذلك، لا بد أن نتفق على أننا لسنا من اخترع أنظمة ومساطر وأشكال الاقتراع واحتساب الأصوات، ولكن هي منظومات موجودة في كل العالم ومعروفة في مختلف أدبيات وتجارب العديد من دول الكون، ومن ثم فكل نظام انتخابي له مميزاته واشتراطاته الموضوعية المعروفة، وحتى إدماج انظمة مختلفة أو متقاربة ضمن مسطرة واحدة له، بدوره،  قواعده التي لا علاقة لها بالتهجين أو العشوائية، وبشكل عام النظام الانتخابي له هدفية مركزية هي إنتاج تمثيلية ديمقراطية للإرادة الشعبية، ولا يمكن صنع تمثيلية بلا ولادة ديمقراطية ناجمة عن نظام انتخابي واضح وجدي ويمتلك منطقيته الداخلية المنسجمة مع محددات الديمقراطية كما هي معروفة في العالم، وإلا سيحدث التراجع والإساءة للمسار الديمقراطي التراكمي لبلادنا.
وفِي مقابل ما سلف، هناك أيضا عجز تدبيري وسياسي خلال السنوات الأخيرة، وهناك ضعف كبير جدا في أداء الحكومة والأغلبية، وتدني واضح في عمل عديد مؤسسات تمثيلية، وفِي المنظومة السياسية والانتخابية والحزبية، وتفاقمت حدة كل هذه التراجعات جراء تفشي الوباء وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، وبرزت تحديات حقيقية مطروحة اليوم أمام بلادنا، تطرح مهمات أساسية للمرحلة القادمة، وهو ما يستوجب… التغيير.
هذا التغيير المطلوب ليس له اليوم مضامين اقتصادية وتنموية فقط، ولن يتحقق بمجرد رسم خرائطه على الورق، أو بمجرد إيجاد الميزانيات وصياغة ميكانيزمات الصرف، ولكن التغيير الحقيقي يتطلب مضمونا سياسيا وفضاء حزبيا وطنيا يكون الدعامة والرافعة لحمل المشروع التنموي الجديد، وهنا تبرز أهمية الانتخابات والمنظومة القانونية المؤطرة لها، وحاجة البلاد اليوم إلى وعي جماعي استراتيجي واستشرافي بمقتضاه تدرك كل القوى الجادة وكامل الطبقة السياسية والنخبة المغربية تحديات اللحظة المغربية الراهنة  واشتراطات بناء مغرب ما بعد كورونا، وأهمية تطوير الثقة العامة وسط المجتمع وبين الفرقاء، وصياغة تعاقد سياسي وطني جديد ينطلق ويرتكز على عقد اجتماعي متقدم، وعلى تطلع عام لترسيخ الديمقراطية والسير ببلادنا إلى الأمام.
المطلوب إذن اليوم هو إبعاد مناقشة القوانين الانتخابية عن السطحية التقنية وإدراجها ضمن بعدها السياسي الحقيقي المتصل بالمستقبل، وبضرورة بناء الثقة العامة، والعمل لتمتين وعي كل الأطراف بهذا التحدي، وبضرورة تبادل التنازلات الأنانية، وآنذاك سيكون سهلا صياغة المساطر والقواعد المتوافق عليها، أما عدا ذلك فسيستمر التوجس محددا لسير المناقشات والمفاوضات، ولن ينجم عن ذلك سوى الالتباس والتوتر.
باقي الكلام الرائج هذه الأيام أو بعض “التشيار” المنبعث من هنا أو من هناك، لا يعدو لدى بعض سياسيي الساعة الخامسة والعشرين سوى كونه تمارين أولى في سيرة الشعبوية البدائية أو لغة المزايدات، ذلك أن قضايا جوهرية كبرى وعديدة تحضن فعلا الفساد والريع وتتطلب التعبئة والنضال ضدها، ويجب على السياسيين والبرلمانيين المجتهدين الانكباب على دراستها وتفكيك معادلاتها ومنغلقاتها لبلورة مقترحات وترافعات أساسية بهذا الخصوص، بدل الإصرار على إثارة مشكلات ثانوية أو قضايا تجذب الاهتمام الإعلامي ومسايرة تدوينات مواقع التواصل الاجتماعي.
نعم إذن لمحاربة الريع والفساد، ولكن ليس بهدف المزايدة و”البوز”، وإنما من أجل تفكيك المنظومات كلها وصياغة بدائل التغيير، والترافع القوي من أجلها.
نعم لإحداث التغيير وتطوير الفضاء السياسي العام ببلادنا، وترسيخ النفس الديمقراطي، وتأهيل منظومات التدبير الحكومي والمؤسسات التمثيلية المختلفة، ولكن ضمن الحرص العام على تفادي أي تراجع ديمقراطي وضرب قواعد الانتخابات الديمقراطية.
هذه هي المبادئ، وهي تتطلب اليوم إيجاد التوليفة والصيغة، وتوفير القوانين والمساطر المنسجمة معها، والمكرسة للبعد الديمقراطي.
هنا الأمر يقتضي الخروج من منغلقات التوجس والالتباس، وبدل ذلك، تعبئة مختلف القوى الفاعلة لتشكيل توافقات سياسية واسعة فيما بينها حول معالم المستقبل…

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top