من أجل تشريع يكفل استقلالية المحاماة

إن كان القانون رقم 08.28 المنظم لمهنة المحاماة تضمن مجموعة من الايجابيات، وكذلك الشأن بالنسبة للمقترح المقدم من طرف جمعية هيئات المحامين بالمغرب لتعديل هذا القانون، فإن استقلالية المحاماة تبقى من أهم الأولويات التي ينبغي التطرق لها، بشكل يضمن للمتقاضي حقه في دفاع مستقل عن كل المؤثرات المحيطة به. وهو ما ينبغي معه التأكيد على أن عين السلطة هم المواطنون، ولابد أن يكون المواطن هو هاجس المشرع الأول، من أجل ذلك فالمطالبة باستقلالية المحاماة لا يمكن اعتبارها امتيازا خالصا للمحامي(ة)، بقدر ما هي مكسب حقيقي للمتقاضي، الذي يلجأ للمحامي(ة) باعتباره، أولا، رجل اختصاص في مجال القانون، وثانيا أن له القدرة على ممارسة مهامه والدفاع عن مصالحه دون الخضوع للضغوط التي قد تعترض سبيل قضيته. ومن أجل تشريع يكفل استقلالية المحاماة، نبدي الملاحظات التالية:
أولا: لا بد للقانون من ديباجة تحيل على المبادئ الدولية المتعلقة باستقلال المحاماة، وترقى بالدفاع إلى مكانة تسمح له بممارسة مهامه دون أدنى تضييق ولا ترهيب، مع ضمان مبدأ التكافؤ بين سلطتي الاتهام والدفاع.(الابتعاد عن منطق الرهابوقراطية أو الخوفوقراطية. ( وبالتالي أصبح من الضروري أن يتضمن القانون المرتقب ديباجة تضع المبادئ الدولية في الصدارة للدفاع عن استقلالية المحامي(ة) بالنظر للمهام الجسيمة التي يقوم بها، مع ضرورة التنصيص على كون المهنة هي حاجة مجتمعية، ورسالة إنسانية لها دور أساسي في ترسيخ دولة الحق والقانون، والدفاع عن حقوق الإنسان، وإشاعة الثقافة والوعي القانونيين.هذا مع ترسيخ فكرة قيام هيئات المحامين بإنجاز تقرير سنوي حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة ارتباطا بحقوق الدفاع ، وذلك من خلال ما يقدمه المحامون من مقالات وعرائض أمام المحاكم الأعلى درجة، فحينما يلغى حكم ابتدائي من طرف المحكمة الأعلى درجة، أو ينقض قرار استينافي من طرف محكمة النقض، أو حينما هذه الأخيرة تعيد النظر في إحدى قراراتها، فذلك يتم بناء على ما يقدمه الدفاع من مناقشة قانونية تضع الأصبع على الخلل الذي أصاب الحكم أو القرار، وهو ما ينم عن وجود خلل ما في هذه المنظومة، وبالتالي فالمحامي(ة) هو من يراقب العمل القضائي عن كثب، ويعرف أحوال العدالة جيدا، ومن ثم أصبح من الضروري على هيئات المحامين بالمغرب العمل على إصدار تقارير سنوية حول الوضعية الحقيقية لمنظومة العدالة وربطها بالحقوق الكونية ومدى احترامها، وذلك تنفيذا لقوة رقابية تستمد سلطتها من احتكاكها بمجال العدالة وكذا بقربها من المواطن المتقاضي، أو حتى إعداد دراسات وإبداء ملاحظات على التقارير المنجزة من طرف قطبي السلطة القضائية، من هنا تأتي الاستقلالية انطلاقا من ديباجة القانون التي تتضمن هذه المعطيات، ووضع المحاماة كجهة رقابة مضادة، والكل مع ضمان مبدأ التكافؤ بين سلطتي الاتهام والدفاع .
ثــانـــيـــا: لا بد من إعادة النظر في التعريف الخاص بالمهنة في شقه الذي يجعل من المحاماة شريك/مساهم للقضاء .
مرد ذلك، أن مفهوم القضاء تراجع للوراء، لصالح مفهوم جديد وهو ‘منظومة العدالة’ ، فالعدالة لها مكونات كل يشتغل من موقعه لتحقيق الغاية الأساسية، التي هي خدمة المتقاضين، في إطار التكامل والتعاون والاحترام.وعليه يتعين الاستغناء عن التشبت بمفهوم الشريك للسلطة القضائية أو جزء من أسرة القضاء، لأن هذا الأخير ارتقى إلى سلطة، والمحاماة هي رسالة نبيلة، وفاعل أساسي في منظومة العدالة، لكون الدفاع الحر والمستقل هو أهم مقومات المحاكمة العادلة، من أجل، أقترح التعريف التالي: “المحاماة مهنة حرة مستقلة، وفاعلة أساسية في منظومة العدالة، تشارك في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريات واحترام مبدأ سيادة القانون”.
ثالثا: أداء القسم: إن صيغة قسم المحاماة، الواردة في القانون الحالي ، تكرس الخنوع وتضرب استقلالية المحامي(ة) في الصميم، من أجل ذلك يتعين تغيير الصيغة مع الإشارة إلى أن ما اقترحته جمعية هيئات المحامين بالمغرب هي مقبولة وتحقق الاستقلالية المنشودة ، غير أنه لا ينبغي الاقتصار على تغيير الصيغة التي جاء بها في القانون الحالي، بل يجب أن يمتد ليشمل الجهة التي يؤدى أمامها قسم المحاماة، فالمقترح احتفظ على أدائه أمام الرئيس الأول لمحكمة الاستيناف بحضور رمزي لنقيب الهيئة الذي يقتصر دوره فقط على تقديم المرشحين للتمرين، والحال أن في هذا الأمر مساس خطير باستقلالية المحاماة. وعليه ينبغي أن يؤدى قسم المحاماة في صيغته الجديدة أمام نقيب وأعضاء مجلس هيئة المحامون، ويتم تقديم المترشحين المقبولين من طرف نقيب سابق أو عضو مجلس سابق ينتدب لهذا الغرض، مما يعطي الوافد الجديد إحساسا بالاستقلال التام والانتماء لجسم المحاماة.
رابعا: التكوين الأساسي
أ ــ من أجل ضمان استقلالية المحاماة لابد من إحداث معهد للتكوين، وأمام فشل الهيئات في إعداد المراكز الخاصة بها للتكوين، بالنظر لضعف الموارد، وأمام الحاجة لتحمل الدولة مسؤوليتها في هذا الباب قصد توفير وضمان ولوج مستنير للعدالة للمتقاضين، لابد من إحداث المعهد العالي للمحاماة، كمؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، دون أن نغفل الاستقلال البيداغوجي والعلمي، تشرف عليه الوزارة المكلفة بالتعليم العالي، عوض وزارة العدل .
يسير هذا المعهد مجلس إدارة تناط مهمة الرئيس لعميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية المتواجد بها مقره، كما يتكون من النقباء الممارسين، وخمسة أساتذة من بين أساتذة المعهد العالي للمحاماة، وممثل عن كل فئة من أفواج المحامين في طور التكوين، وإن أمكن إضافة مدير الميزانية والمراقبة بوزارة العدل، من أجل تتبع الميزانية الخاصة بالمعهد. مع إمكانية توجيه دعوة من طرف رئيس المعهد لحضور اجتماعات المجلس الإداري من باب الاستشارة والانفتاح على المحيط، أي شخص يرى فائدة في حضوره.
هكذا، من الطبيعي أن التكوين الأساسي للمحامين، وإن كان لابد من تدخل السلطة التنفيذية، ينبغي أن يكون تابعا للوزارة المكلفة بالتعليم العالي، وبهذا نفك الارتباط مع وزارة العدل، ونضع مراكز التكوين بين يدي أهل الاختصاص والتدريس، بوجودٍ فاعلٍ للسادة النقباء والمحامون المكلفون بالتكوين. مع التأكيد على أنه لا مكانة لممثلين عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ولا لممثلين عن رئاسة النيابة العامة، ولا للرؤساء الأولين لمحكمة الاستيناف والوكلاء العامين بها، في هذا المعهد، لأن وجودهم يشكل مساسا باستقلالية المحاماة.وللإشارة فإن الولوج للمهنة، يتعين أن يكون بيد هيئات المحامين ضمانا للاستقلالية، فالوافد الجديد عليه أن يقدم طلب الانتساب واجتياز المباراة الخاصة بولوج المعهد العالي للمحاماة أمام الهيئة التي يرغب بالانتساب إليها، وهي من تحيل الملف على الجهة المخولة بتتبع المباراة.
ب ــ بالرغم من كل ما سبق، حبذا لو تحتفظ هيئات المحامين بالمغرب باستقلاليتها التامة في مجال التكوين، الأساسي والمستمر، وما ذلك بعسير عليها، إذ يمكن أن نجد مخرجاته، في القانون رقم 01.00 المتعلق بتنظيم التعليم العالي، الذي نص في الباب الثاني منه على التعليم العالي الخاص (المواد من 39 إلى غاية 68)، وفتح بذلك إمكانية إحداث مؤسسات للتعليم العالي الخاص تحت إسم معاهد أو مدارس أو مراكز (المادة 41 من القانون رقم 01.00) تعطى لها مهمة التكوين الأساسي للمحامين المتمرنين، والمساهمة في تنويع التعليم العالي الوطني من خلال تجديد برامج للتكوين والبحث، وتقبل الشهادة المسلمة عن مسالك التكوين المعتمدة للمعادلة مع الشهادات الوطنية وفقا لإجراءات معينة (المادة 52 قانون رقم 01.00).وعليه، يمكن للهيئات الاعتماد على هذا النص القانوني لإخراج معاهد جهوية لكل هيئة، تحفظ لها استقلاليتها، وتساهم بشكل جلي في تطوير مجال التكوين، ليس فقط للمحامين، وإنما لجميع المتدخلين في مجال العدالة، وكذا بالنسبة للطلبة.إذ ستوفر فضاء تكوينيا جديدا يركز على ما هو عملي، من خلال هيئة تدريسية تمزج بين النظري والجانب التطبيقي، هذا الأخير الذي ينبغي أن يكون له حصة الأسد في التكوين، وبالتالي سيساهم في إعطاء شهادة مهنية للمتخرجين، وبذلك سيتم ضمان استقلالية المحاماة ليس فقط من حيث التكوين، بل أيضا من حيث الولوج الذي لن يظل بيد وزارة العدل .
خامسا: ولتعزيز أكثر لاستقلالية المحاماة، لابد من إحداث هيئة مهنية عليا/وطنية، أو هيئة مختلطة (قضائية/مهنية) تضم قضاة ومحامين
ن، للبت كجهة استينافية في القرارات التأديبية الصادرة عن مجلس هيئة المحامين، وكذا في قرارات النقيب باعتباره قاضي الأتعاب. فبدون ذلك يصعب مناقشة استقلالية مهنة المحاماة.
سادسا: بخصوص منح الإذن للمحامي، الذي يمارس المهنة في بلد أجنبي يرتبط مع المغرب باتفاقية ثنائية تسمح لمواطني كل من الدولتين بمزاولة مهنة المحاماة في الدولة الأخرى، لمؤازرة الأطراف أو تمثيلهم أمام المحاكم المغربية، ينبغي أن يسلم من طرف نقيب هيئة المحامين، لدى محكمة الاستيناف التابعة لها المحكمة التي تنظر في النزاع، وليس من طرف وزير العدل.
سابعا: التعيين في المساعدة القضائية هو من اختصاص النقيب فقط دون سواه، مما يتعين معه إلغاء ما نصت عليه المادة 317 من قانون المسطرة الجنائية المغربي، التي تعطي لرئيس الجلسة الحق في تعيين محام في إطار المساعدة القضائية، والاقتصار، بذلك، على منح النقيب وحده سلطة تعيين المحامي(ة) في إطار المساعدة القضائية، لتجاوز الممارسات السلبية التي تضر بحقوق الدفاع، والتي تعطي انطباع لدى عموم المتقاضين على أن مهمة الدفاع هي ذات طابع شكلي لا غير، من أجل ذلك ينبغي حصر مهمة التعيين لمؤسسة النقيب.
ثامنا: تدخل النيابة العامة فيه مساس باستقلالية المحاماة:
أ ــ نعلم جميعا أن المحامي(ة) لا يسأل عما يرد في مرافعاته الشفوية أو في مذكراته مما يستلزم حق الدفاع، وللمحكمة أن تحرر محضرا بما قد يقع من إخلال، وتحيله على النقيب (المادة 58 من القانون 28.08 المتعلق بمهنة المحاماة)، لكن لا ندري لماذا تم إقحام الوكيل العام في الموضوع الذي يحال عليه المحضر هو أيضا من طرف المحكمة لاتخاذ ما قد يكون لازما.
هذا المعطى فيه نوع من الترهيب وضرب لحصانة الدفاع واستقلاليته، مما ينبغي معه حصر إحالة المحضر المنجز من طرف المحكمة على النقيب فقط، لأن للمحاماة أجهزة مكلفة بإنفاذ القانون، ومن مقومات الاستقلال هي الحصانة والحرية، وان سلطة النقيب هي الوحيدة التي تتدخل، في هذا النوع من القضايا.
خاصة، وأن المحامي(ة)، في بعض الأحيان، يحرص على عدم تحريف تصريحات من ينوب عنهم عند الاستماع إليهم من طرف المحكمة، باعتبار أن هذه الأخيرة، من خلال ما جرى به العمل، هي من تقوم بإملاء ما يضمنه كاتب الضبط خلال الجلسة، في خرق تام لما يجب أن يكون، وهو أن يقوم كاتب الضبط بتدوين كل ما يروج بالجلسة دون الحاجة لأي إملاء من أحد، وهذا الأمر من شأنه أن يخلق بعض الخلافات، والتنصيص على تحرير محضر وإحالته على الوكيل العام لاتخاذ ما يلزم، فيه نوع من الترهيب والمساس باستقلالية المحامي(ة)، ومن شأنه أي يكبل يدي الدفاع في مزاولة مهامهم.(نفس الشيء يطبق على الفصل 341 من قانون المسطرة المدنية الذي يتعين حذفه)
من أجل ذلك ينبغي الاقتصار فقط على إحالة المحضر على نقيب الهيئة التي ينتمي إليها المحامي(ة)، دون الوكيل العام، وليس في هذا الأمر أي امتياز لهيئة الدفاع، بقدر ما هو ضمانا لحقوق المتقاضين.
ب ــ كما يتعين إنهاء تحكم النيابة العامة بخصوص الطعن في القرارات الصادرة عن مجلس هيئة المحامين المتعلقة بمسطرة تأديب المحامي(ة)، والحال أن هذا الطعن يبقى من صلاحيات مقدم الشكاية الذي يعتبر طرفا في المسطرة التأديبية، ولا مكان للنيابة العامة لاعتبارها كطرف أصيل في هذه المسطرة، وذلك قياسا على ما هو معمول به بخصوص قرارات نقيب هيئة المحامين المتعلقة بتحديد الأتعاب، التي يتم الطعن فيه من الأطراف، دون النيابة العامة.
في الختام تبقى هذه بعض الملاحظات التي تمت إثارتها لتجاوز، كل ما من شأنه أن يمس باستقلالية المحاماة، من أجل توفير مناخ حقوقي وقانوني سليم للممارسة، يساعد على بناء دولة الحق والقانون، ويكفل للمتقاضين حقهم في دفاع قوي ومستقل، في إطار سيادة القانون.

 مـنــيـــر فــونـــانـــي

Related posts

Top