من أجل نقاش مسؤول لتعليمنا، وبلا حسابات ضيقة

السجالات الدائرة منذ فترة حول مشروع القانون الإطار للتربية والتكوين المعروض في البرلمان، وخصوصا ما يتصل بلغة التدريس، فضحت التدني العام لمستوى الحوار السياسي العمومي، ولم تتردد أطراف برلمانية وقوى سياسية وهيئات أخرى في تحريف مجرى النقاش، واختزال كامل التحدي المطروح على تعليمنا الوطني في اللغة التي يجب أن تدرس بها المواد العلمية، وتقديم الأمر كما لو أنه صراع بين اللغتين العربية والفرنسية، وحرب اكتساح مواقع بين أنصار كل اختيار منهما.
إن الخطير في هذا التجاذب هو بالذات هذا المنحى الاختزالي السلبي الذي توجه نحوه النقاش تيارات سياسية معروفة لدى الجميع.
بالفعل، لقد صار مؤخرا الحوار البرلماني والإعلامي بين أطراف حزبية معروفة مختزلا في تبادل الاتهامات بينها حول قضية تطرح في الساحة، وهو ما برز أيضا هذه المرة بخصوص قضية إصلاح التعليم، ولم تبد كلها أي حرص أو مسؤولية في التفكير في أهمية هذا الورش الإصلاحي الوطني المحوري والإستراتيجي لمستقبل بلادنا وشعبنا.
الانحراف الخطير اليوم هو هذا الجدل العقيم المنطلق من تموقعات إيديولوجية يتمترس خلفها هذا الطرف أو ذاك، وأحيانا يكون مجرد رغبة في البروز والاختلاف وتسجيل أهداف شعبوية في مرمى الخصم الحزبي، والحال أن التفكير يجب أن ينطلق من الواقع، ومن الاختلالات الحقيقية والعديدة التي تعاني منها منظومتنا التربوية بشكل عام.
اليوم لا أحد يختلف حول تردي مدرستنا العمومية ومستوى التعليم بها، ولا أحد يختلف حول التدني المهول للمستويات التعلمية والتكوينية والمعرفية للتلاميذ والطلبة، بما في ذلك في اللغات كلها، ومنها اللغة العربية نفسها، ولا أحد أيضا يختلف حول التراجعات الملحوظة على صعيد المدرسة ككل، ومن مختلف جوانبها…
وفِي نفس الوقت، لا أحد يجهل طبيعة منظومتنا الاقتصادية والإدارية، ومتطلبات سوق العمل، وما يعانيه الطلبة مع دراسة المواد العلمية في الجامعة…، وكل هذه المشكلات هي قضايا حقيقية وواقعية، وتتطلب حلولا واقعية وعملية، وليس تنظيرات فلسفية ومواقف وأحكام إيديولوجية غارقة في اليقينيات والتعصب والتكلس، ولا يمكن حلها بالهروب إلى الأمام والتحليق في سماوات التجارب الدولية والسعي لاستنساخها بلا مراعاة لإكراهات الواقع التعليمي والاقتصادي والمجتمعي هنا والآن.
إن دراسة مشروع القانون الإطار للتربية والتكوين في البرلمان تعتبر فرصة لصياغة منظومة إصلاحية جريئة وشجاعة لمعالجة كامل اختلال نظامنا التعليمي الوطني وإنقاذ شبابنا وشعبنا من تدني المستوى، ومن التجهيل ومن إفراغ مدرستنا الوطنية من مضمونها التكويني والمعرفي والثقافي، ومن ثم يعتبر تضييع هذه الفرصة بمثابة لا مسؤولية واضحة تجاه شعبنا والقضايا المصيرية لبلادنا.
أما الحديث حول قضية التعليم ولغة التدريس من منطلق عقلية التمترس الإيديولوجي العقيم أو تصفية حسابات حزبوية قصيرة المدى، فهو صبيانية كبيرة وتهور ومغالاة من لدن أحزاب لا تفكر أبعد من أنفها.
وعكس ما سبق، فالمطلوب اليوم هو التفكير في جودة تدريس المواد العلمية وانسجام ذلك مع واقع التدريس في التعليم العالي، وضمان جودة الشهادات والتكوين لأبناء المغاربة، وتلبية حاجيات سوق العمل كما هو في الواقع وليس كما نحلم به.
وفضلا عن ذلك، منح اللغة العربية أيضا المكانة الدستورية المستحقة وتطوير تدريسها، علاوة على استكمال الورش القانوني للأمازيغية ومنحها الاعتبار اللازم، وربط المغاربة بتاريخهم وهويتهم وثقافتهم من خلال المضامين التعليمية والإعلامية والواقع الإداري والمجتمعي بلا عمى أو التباس في الرؤى أو خلط في الطرق المؤدية لذلك.
نحن الآن بصدد موضوع محدد، ويتعلق بجودة تدريس المواد العلمية في مراحل تعليمية معينة وجعل ذلك منسجما مع واقع الجامعة وسوق العمل، والسعي ليكون إصلاح التعليم شموليا ومتكاملا وعمليا، ويتيح لأبناء المغاربة تعليما جيدا ومنتجا ونافعا.
أما الاصطفافات الإيديولوجية المتكلسة والجامدة فلن تقود إلا إلى مزيد من التجهيل والتدني، وإلى نفور المغاربة من مدرستهم الوطنية، وإلى اجترار ذات النتائج الكارثية التي يعاني منها التعليم المغربي منذ عقود.
ليفكر الجميع إذن بعقلانية ومسؤولية، وفي المصلحة العليا للمغرب والمغاربة.

< محتات‭ ‬الرقاص

Related posts

Top