من الفضاء العمومي إلى الفضاء العمومي المضاد

كثيرة هي الأصوات التي تدعو إلى إعادة بناء الفضاء العمومي، وهي في الواقع دعوات تغفل إمكانية الانفتاح على سبل أخرى من الخيارات والانعتاق من هذا النموذج الهابرماسي، لأن الفضاء العمومي في مسار تطوره أصبح حكرا على فئة بعينها، بهامش لا يسمح بالتغيير والتجديد، وبسقف محدود محكوم بمؤسسات ليبرالية تشكل غطاء مؤسساتيا لطبقة بعينها. إنه فضاء يعيد إنتاج مكوناته.
لم يعد مفهوم الفضاء العمومي قادرا على استيعاب كمّ هذه التحولات التي يشهدها العالم، وصار هذا المفهوم الهابرماسي عاجزا عن الإجابة على مجموعة من الأسئلة الكبرى، وأصبح من اللازم إيجاد بدائل قادرة على ملامسة الأزمات الجديدة والانفتاح على ما استجد من ديناميات وفق نظرة تستوعب كل الأطياف والطبقات الاجتماعية التي باستطاعتها احتواء الخصوصيات والحساسيات المجتمعية.
هذا المفهوم الذي استعمله هابرماس لأول مرة سنة 1962، جاء استجابة لأسباب نزول محددة، لم تعد شروط استمرارها هي ذاتها، ولم يعد قادرا على تفكيك هذا الواقع المتحول وفق أدوات تحليل صيغت في وقت مغاير. وقد لاقى هذا المفهوم عددا من الانتقادات المعرفية، كان أبرزها تلك التي وجهتها له النظرية النقدية مع “أوسكار نيغت”.
وبدل أن يُسهم هذا الفضاء العمومي في تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، استُعمل من قبل البورجوازية الإنجليزية في كل مسار تاريخها، من أجل إشهار وتلميع مصالحها الاقتصادية على حساب قطاعات كاملة من المجتمع، لذلك يخلص نيغت إلى نتيجة مفادها أن الفضاء العمومي الهابرماسي ليس قادرا على إنتاج توافقات حقيقية لكل التجارب الاجتماعية؛ هو فضاء مهيمن إقصائي يتجاهل خصوصيات وحساسيات المجتمع التي يدعي تمثيلها.
إن هذا الفضاء العمومي “الرسمي” يكرر إلى حد كبير لغة النظام الاقتصادي ورمزيتة. وهو بذلك يعيد إنتاج نفس المخرجات المحكومة بسياق سِلعوي، وهو ما جعل من خلق فضاء عمومي مضاد أمرا واقعا اتخذ خلال الخمسينية الأخيرة أشكالا عدة يوحدها قاسم التمرد والانتفاض.
لقد أصبحت مؤسسات الوساطة عاجزة عن لعب الدور المنوط بها، وتوارت النخب السياسية إلى الخلف، وأصبحت الحركات الاحتجاجية تتخذ أشكالا متجددة، وباتت تخلق لنفسها مساحات جديدة تتمرد من خلالها على المؤسسات الليبرالية. إنه فضاء جديد يوازي الفضاء الرسمي ويعارضه. يتعلق الأمر بخلق متنفس جديد يستطيع الاستجابة للحاجيات الجديدة التي لا يمكن للفضاء العمومي البورجوازي أن يحتويها، وهو الذي يعمد إلى إقصاء جزء كبير من المجتمع من النقاش العمومي.
إن الغرض ليس هو خلق فضاء عام مضاد وتسييجه أوتخصيصه بشروط محددة أو جعله حكرا على فئة أو طبقة بعينها، إنما الغاية هي جعل هذا الفضاء المعارض حقلا للتجارب الحية التي تجعل من المواطنة موضوعا متجددا باستمرار يدور بشكل لولبي مع عجلة التغيرات التي تطرأ والسعي إلى الانعتاق من حصار هذا الفضاء العمومي، وابتداع مزيد من الأساليب المطلبية أو الإعلامية وانتزاع كثير من الحقوق وفرض واقع جديد يخدم المصلحة العامة.

 وليد اتباتو

باحث في الإعلام

Related posts

Top