من شعرية الجنون إلى لعبة الظلال في ديوان: “ظلك فليل الغابة شجرة” لعبد الرزاق بوكبة

“إنما يبحث المبدع لنفسه عن رفاق، لا عن جثث، ولا عن قطعان ولا عن مؤمنين. إن من يبحث عنهم المبدع إنما هم رفاق ينقشون قيما جديدة على ألواح جديدة”

 نيتشه

*****

  “ظلك فليل الغابة شجرة”(1)

       لابد من الوقوف بدءا على ما أردف به الشاعر عنوان أضمومته الزجلية  من توصيف لافت يستحق الانتباه، لماذا أضفى على ديوانه  صفة ” تجربة زجلية” عوضا  عن وصفه بـ “زجل” ؟ خاصة وأن للمؤلف إصدارات زجلية سابقة (2).. هل القصد  من ذلك، هو تجريب في الشعر الشعبي؟ أم تجريب في الكتابة الزجلية ؟ أو هو انتماء لتجريب جديد في اشتغال المبدع يروم من خلاله تقديم اجتراح شكل جديد لمورفولوجيا النص الزجلي؟  هي أسئلة شتى تصيب فضول القارئ، ونرجو أن يجد في هذه الورقة  ما يفي ببعض الغرض.

        العنوان مدخل عام لفضاء النص وعوالمه، و باب قد يكون مدخلا عابرا وقد يكون متاهةَ متعةٍ أو دعوة مغامرة لسبر أغوار النص/ المكتوب وقد يكون بابا نفتحه  في نهاية النص نحو اتجاه مقلوب كما أبجدية عبد الرزاق بوكبة وبهذا نجعل العنوان بابا للدخول وقد نؤجله بابا للخروج من المغامرة في مغارة/ غابة بوكبة الزجلية.

 “ظلك ف ليل الغابة شجرة ” جملة شعرية بامتياز مليئة ومكثفة، بحيث تصير لوحدها قصيدة. يحضرني هنا عنوان إصدار الزجال الكبير أحمد لمسيح “سطر واحد يكفي” (3).

 الظل هو العتمة أو الظلام الناتج عن حجب جسمٍ ما للضوء، مانعا هذا الضوء من الوصول إلى سطحٍ ما، ومن هنا يصبح الظلّ على الأرض منطقةً معتمةً على شكل الجسد الذي يحجب عن الأرض ضوء الشمس أو مصدر نور). في اللغة الدارجة يتداخل علينا مفهوم فكرة “الظل ” وفكرة ” لخيال” ونربط عادة الظل بالشمس لنستظل به من قيظها و “لخيال” يمكن أن يكون ظلا كما يمكن أن يكون صورة ملتبسة لشيء معين. الليل والنور الخافت يجعلنا نخمن شكل الأشياء ونتخيلها. كم خوفتنا أشكال هلامية توهمناها لأشياء ونحن أطفال صغار نلعب ليلا في أحراش البادية.

 يمكن أيضا أن نقرأ العنوان باستحضار فن الظلال الذي كنا نصنع به فرجة عبر اللعب بأكفنا أمام مصدر ضوء ونصنع عبر ظل أصابعنا أشكالا فرجوية مدهشة. و”الظل” أو” لخيال ” يعبر عن كنه الشيء لا مظهر الشيء، ظل إنسان لا لون ولا مظاهر تميز انتماءه الطبقي أو العرقي ولا ثقافته، هو فقط ظل إنسان في قيمته المطلقة بالمفهوم الرياضي. الغابة فضاء ايكلوجي، هي حاضنة الحياة بعد البحر من منظور تطور الكائنات والنباتات.  بين الغابة والإنسان علاقة احتضان وصراع، مصدر عيش وطاقة، هي رئة العالم. المدن غابات إسمنتية حمل إليها الإنسان نفس أوجه الصراع الذي عاشه قبل المدنية. عبر هذه التأويلات الممكنة للظل والغابة وليلها يمكن أن نقارب  العنوان ونقرأه قراءة تأويلية.

***

الأديب عبد الرزاق بوكبة كما عرفته في كتاباته  مقتصد كلام من طبعه، هو عاشق للكتابة بالبياض أو الحذف والمحو، تستهويه الكتابة الشذرية في استقلاليتها أو في بناء نصوصه الطويلة.  هو ينتصر لما قاله نيتشه ” مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب”، لذا شيد نصه وفق هذا الاتجاه،  نصان طويلان بتقنية شذرية تعتمد التقتير والاختزال والحذف والإضمار. شبيه صانع عطر يلزمه ركام أحرف ليستخرج روح الزهر قطرة قطرة، لينفجر عبيره كلما هممنا باقتراف فعل القراءة/ الشم.  بكثير من صمت القول وكثير من صخب المعنى  وبرؤيا فلسفية تأملية ينحت بوكبة مصفوفات (أستعير المصطلح من لغة الرياضيات) متوالية تكوّن في توليفاتها فضاء النص في جزئه الأول “أبجدية مصلوبة”  نقدم نمذجتها وفق الخطاطة التالية:

سكَنتْ فْ ( أ)  ك

رْجَعتْ    (ب)

(مفارقة)

استحضار (ج)   وانزياح

لنأخذ نموذجا ( الصفحة 9) لتوضيح أمر ما ذهبنا إليه حول فكرة المصفوفات:

 “”سكَنتْ فْلَيْلَكْ

رْجَعتْ قْمَرْ

يْضوِّي روحُو بْروحُو

وَيْحَلّقْ للشمس ضفيرَتْها.” ( ص 9)

(أ) الليل و (ب) القمر و(ج) الشمس و(المفارقة) هي يضيء ذاته.

   يقر العلم أن القمر يعكس أشعة الشمس فقط ولا ينير من ذاته ونتوهم نحن في تصورنا أن القمر يضيء. بينما اعتبره الشاعر مستقلا عن الشمس ،  وجعله منبعا للنور (يضوي روحو ب روحو) .متوسلا بتقنية الانزياح حيث جعل  القمر “يحلق” ضفيرة الشمس (إحالة لمرتبة الأمومة) فأصبحت الشمس في مرتبة أدنى من مرتبة القمر بل هي في حاجة إلى أن تستمد زينتها منه، والمفارقة الأخرى هو لجوء الشاعر إلى إلحاق ” الضفيرة” بالشمس  إلحاقا رمزيا  تحقيقا لصفة التأنيث.

 على هذا النحو يمكن  قراءة اللوحات ( المصفوفات) التي يتكون منها جزء أبجدية مصلوبة. خمس وعشرون مصفوفة تامة وكاملة،  وظف فيها الشاعر مشاهد استعارية ومجازية خصبة  مكنته من إبداع مفارقات متعددة  من خلال شبكة علائقية   نجملها في هذه الانزياحات  داخل الجدول التالي:

 

الصفحة (أ) (ب) (ج) مفارقات وانزياحات
سكَنتْ فْلَيْلَكْ

رْجَعتْ قْمَرْ

يْضوِّي روحُو بْروحُو

وَيْحَلّقْ للشمسضفيرتها. ص9

ليل قمر الشمس القمر يستقل بنوره مفارقة والحال أنه في الواقع يعكس ضوء الشمس. وتصبح الشمس في حاجة للقمر لتزيين أشعتها / ضفيرتها
سْكَنتْ فَنْهارَكْ

رْجَعتْ شمسْ تْعَرِّي رُوحْها

وْتَكْسِي المَجَرَّه

وَحْدُو لُغْرابْ عْطاها ريشتُو  

باش تَستَرْ عَوْرَتْها.ص 10

نهار شمس المجرة الشمس ” تعري” نفسها لتمنح الكساء للمجرة. فيحاجة للغراب ليعلمها ستر عورتها. إحالة لهابيل وقابيل والقتل والدفن الذي علمه الغراب. 
سْكَنتْ فَغْيابَكْ

رْجَعتْ غُرْبَه

تْبَنّاتْها الرّيحْ

وْلَقّْحَتْ بيها الكَونْ. ص11

غياب غربة الريح ريح تتبنى الغربة لتلقح بها الكون لتصبح الغربة بهذا المعنى عنوان الكون .

المبدع والغربة الداخلية.

سْكَنتْ فَغْنايْتَكْ

رْجَعتْ بُلْبُلْ

تْناهشاتُو الفَرْحَه والحزن

وخلَّاوُه بْلا ريش . ل ص12

غناية بلبل الفرحة والحزن تنازع الفرح والحزن جرد البلبل من ريشه
سْكَنتْ فْحَقْدَكْ

رْجَعتْ فَرَاشَة

كِتَزْعَفْ عْلى السّْمَا

تَصفَعْها بَجْناحْها.ص13

حقد فراشة السما الفراشة تصفع السماء بأجنحتها عند غضبها
سكَنتْ فْشهْوْتَكْ

رْجَعتْ عَرْقْ

يْفوَّتْ حتّى كوكبْ.ص14

شهوة عرق كوكب العرق باتساع يمكن من مرور كوكب
سْكَنتْ فْكاسكْ

رْجَعتْ عَنْقودْ

يْطَيَّب الشّْميسَة

وَيْبَلّلْ ريق الصّحْرا. ص 15

كاس عنقود الشمس / الصحراء العنقود الذي ينضج الشمس و للصحراء ريق يبلله
سْكَنتْ فْمَسرحيتَك

رْجَعتْ ممثّلْ

يَلْعَبْ كُلّ الأدوارْ

غير دور أنّك تَتوَحشيني

هَذاكْ حلمي

ماهوش دوري. ص16

مسرحية ممثل الدور دور الشوق ليس ضمن المسرحية هو حلم أكبر لم يتحقق بعد.
ص17 زعاف شوكة الكذبة/ الوردة شوكة تعمي عين الكذبة تعطي للوردة سلاح الجرح
ص18 وتر نغمة الهروب/ الوصول شخصنة  النغمة / هروبها  حافية القدمين وبها لهفة  كبيرة للوصول
ص19 ريشة لون الريح كيف يزيل اللون لونه ليصبح عاريا لا تراه غير العين العاشقة.
ص 20 رقصة كوكب عليك إثارة غيرة الشمس في طوفانه عليها
ص 21 كلمة حرف سقراط/الصبيان حرف يستعصي على سقراط ويتيسر للصبيان
ص 22 صلاة معبد الناقوس/ المحراب معبد ترك ناقوسه للإهمال ومحرابه للبار
ص 23 تيه حقيقة تحكم / تحرر التحكم في الحقيقة تيهان فقط دمها طريق للحياة
ص 24 رائحة حديقة تأثيث الكلمات تصبح ورودا والحكايات طيورا
سكَنتْ فْشطَّكْ

رْجَعتْ  شراعْ

يْسافَرْ لْيهْ السّْفَرْ

وْتَحْلَمْ القَمْرَهْ باشْ يَدّيها

لشَطّ عازبْ

يْجِيبو قَمْراتْ صْغَارْ

يَهْدوهُمْ لَّيْلَتْنا. ص25

شط شراع حلم القمر السفر وحلم القمر للشاطئ يحمل منه أقمارا لليل التي جننته
ص 26 ربيع عصفور فم الجنة الجنة عصفورة نهمة على الأخضر
ص 27 صيف نسمه إلهاء الشمس تحرق نفسها
سْكَنتْ فِثَلجَكْ

رْجَعتْ مَلاكْ دافي

قلبي بْيَضْ

وْمَايا  كِنْذوبْ  يَتْهاوْشو عْليه السّواقي.ص28

ثلجك ملاك الذوبان حاجة السواقي للماء حين يذوب ماء الملاك
ص 29 عقل سؤال هروب السؤال لا حاجة له للجواب
ص 30 روح حضره الرقص مشاركة الإله في الرقص
سْكَنتْ فِجَسدَكْ

رْجَعتْ رَعْشَهْ

حتّى السّْمَا

حَبَّتْ تْصَيَّفْها.ص31

سماء رعشه   حاجة السماء لهذه الرعشة
ص 32 فرحة نشوة   رقة لها صلابة الحجر
ص 33 حزن رماد سهر حرارة الدمع المسقي بالجمرات
سْكَنتْ فْلُوغْتَكْ

رْجَعتْ إشَارة

تَشرَحْ الكونْ

وْيَشْرَحْها الوَقتْ

لَلْحِكْمَه العَمْيَا.ص34

لغة إشارة الكون الوقت يعلم الحكمة العمياء

يترتب عن هذا الجدول أن الشاعر يسافر بنا عبر مفارقات وانزياحات  مدهشة  تحملنا على الاجتهاد في إنتاج المعنى  متورطين فيه بشكل من الأشكال.مدفوعين إلى تأويل الرموز والدلالات ، ولعل أهم ما نخلص إليه هو:

–   – إن التي جننته في أبجديته المصلوبة4  أكثر من أنثى وقصيدة ووطن، هي الكون كله.

 – صوت الشاعر يسكن متبتلا في محراب التي جُنَّ بها بصفة دائمة:

 (نهار/ غياب / غناية/ حقد/ شهوة/ كاس/ مسرحية/ زعاف/ وتر/ ريشة/ رقصة/ كلمة/ صلاة/ تيه/ ريحة/ شط/ ربيع/ صيف/ ثلج/ عقل/ روح/ جسد/ فرحة/ حزن/ لغة).

–  يتحول عبرها إلى صفة أخرى ( قمر/ شمس/ غربة/ بلبل/ فراشة/ عرق/ عنقود / ممثل/ شوكة/ نغمة/ لون/ كوكب/ حرف/ معبد/ حقيقة/ حديقة/ شراع/ عصفور/ نسمة/ ملاك/ سؤال/حضرة/ رعشة/نشوة/رماد/ إشارة).

 إن هذه اللوحات الفنية بصورها الشعرية البليغة، والتي وقفت في الجدول أعلاه على لعبة البناء الفني فيها، تفتح شهية ممارسة لعبة التأويل والتفكيك من جانب المضمون، تأويلات تهم المواقف والرؤى والاستشراف والحدوس واستحضار التناص الشيء الذي يتطلب من معانقيها  زادا معرفيا كبيرا ( متنوعا).

****

         في الجزء الثاني من الديوان ، الذي وَسَمَهُ الشاعر ب:  “أبجدية مقلوبة” و أهداه إلى” التي جننوها”؛ لوحات تسافر بنا، عبر حروف الأبجدية المقلوبة في ترتيبها ، لحوار جواني حول قضايا وأحاسيس وأفكار ومواقف في الفكر والجمال. على لسان “المهبولة” سنكتشف مفارقات وانزياحات فنية ممتعة شتى:

   إن أبرز ما يستوقفنا في هذا الجزء، هو سؤال الجنون الذي يتوزع عبر جزأي الديوان كتيمة مركزية. غير أن مفهومه في الجزء الأول ليس هو نفسه في الجزء الثاني. جننته بمعنى فتنته وذهبت بعقله وهام بها سكنا وتحولا، جنون الذات الذي يحيلنا على جنون المبدعين والفنانين في العالم قد نستحضر قيس بن الملوح مجنون ليلى أو شطحات فان غوخ وهو يقتلع أذنه وتقديمه هدية لحبيبته أو جنون نيتشه وهو يعانق حصانا كان يجلده سائسه أمامه  قبل أن يتكلم فيه زرادشت. بينما في الجزء  الثاني، جننوها أي أذهبوا عنها العقل كي لا يصدقها الناس، لأنها تعري الأشياء وتناشد التغيير، وتاريخنا مليء باتهامات لعقلاء ومناضلين خالفوا المفاهيم الثقافية والاجتماعية والسياسية السائدة وأدخلوا مارستانات حتى لا يصبحوا رموزا بل لم يسلم حتى الرسل من هذا الاتهام في بداية نشر رسائلهم.

هل التي جننته في الجزء الأول هي التي جننوها في الجزء الثاني ؟ هذا ما سنقف عليه في بعض نماذج من لوحات هذا الطابق الشعري ونحن نصعد مع الشاعر من ياء الأبجدية لألفها.

     من هي هذه المهبولة ( التي جننوها؟) التي سنسافر معها وعبرها في هذا الجزء؟ طبعا واستحضارا للمقولتين: “خذوا الحكمة من أفواه المجانين” و” ليس على المجنون حرج” نكون بين الحكمة والحرية في القول خارج رقابة العقل. هي دعوة لركوب غمار التأويل الذي جرفني موجه  العاتي في هذا المنجز الشعري.

 .

    يبدأ هذا الجزء بلوحة تشكيلية   (ص77)

ي

 

…أ

   في قراءة بصرية يبدو أننا أمام هرم مقلوب. عالم يمشي على رأسه حسب المنطوق الهيغيلي . هل هي دعوة لملء نقط الحذف، إيمانا بأن الطبيعة تخشى الفراغ؟ هل هي لعبة مرايا، حيث نرى صورة مماثلة محوريا لهرم رأسه الألف وقاعدته الياء؟ هل هي دعوة ضمنية لقلب المنطوق الهيغيلي للمنطوق الماركسي في الجدل الفلسفي ، من عالم يمشي على رأسه إلى عالم يمشي على رجليه؟ هي تداعيات استحضرتها أمام اللوحة /الشذرة وأنا أقف أمامها كي لا أقول أقرأها.

في منطوق الواو (ص78)

 “قالت مهبولة لمدينة:

أنا مانيش موسخة

غير ملقيتش بقعة نظيفة”

 موقف نقدي بين من المدينة التي لا توفر شروط  العيش الكريم لـ”للمهبولة”. دعوة  ضمنية لتنظيف المدينة / الفضاء وتهيئ شروط التمدن فيها لتستقيم لساكنيها وتحضرهم. طبعا المدينة رمز للبلد و للحضارة عموما.

في منطوق (م) (81)

 “فالوقت اللي تتكيف فيه سبسي

تحاكم الدنيا وتعاقبها

ترجع دخااااان”

 

 موقف تهكمي بطعم جنون .” الدخان رمز للوهم ( لأنك تطارد خيط دخان أستعير التعبير من نزار قباني في قارئة الفنجان). الدخان رمز المحو، كل الأشياء العضوية حين تحترق تنمحي لا يبقى إلا الرماد وسحب الدخان التي بدورها يذروها الريح ليبقى الغياب سيد المكان. لا دخان بدون نار والنار هنا الحريق الذي يسكن المهبولة وتنفثه تهكما ومعاقبة للدنيا.

منطوق (ف) ( ص85))

 “تبدا حكايتها مع الناس

كتفتح عينيها

تبدا حكايتها مع روحها

كترقد.

شكون سمع مهبولة

تحكي فمنامها؟”

 على مستوى البناء، نلاحظ اشتغالا نشيطا على التماثل في التكرار (تبدا / حكايتها)  والتضاد في ( تفتح عينيها / ترقد)  والتقابل ( مع الناس/ مع روحها) ، الموقف:  لا أحد يشعر بمعاناة ” المهبولة” . لا من يهتم بأحلامها. هم صم على سماع حكايتها الجوانية. هم جننوها فكيف سيسمعونها تحكي؟

منطوق (ش) (ص92)

 “نسات لحمامة ريشة عندها

ستناتها

حتى طار عقلها

مثقل الأمانة”

  يعتبر الحفاظ على  الأمانة في ثقافتنا من أسمى القيم التي نُعيّر بها الإنسان. فريشة حمامة أمانة أثقل بكثير مما يمكن أن يُظَن  ، وهو معيار لا يوازيه الا انتماء “المهبولة”  إلى أعلى درجات الرقي الإنساني.

 يمكن أيضا استحضار الرؤية الدينية عن الأمانة في هذا الشأن،

( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. 5 ا،  غير أن هذا التأويل في خلاصته  لا يستقيم على المهبولة لأنها ليست ظلوما جهولا.

 

منطوق (خ) (ص98)

“ما تشيبش

راسها وقلبها تفاهمو

ميلبسوش لون واحد”

    إحالة ذكية لبياض القلب  كونها “متشيبش” يعني لن يبيض شعرها  ووفق الاتفاق بين رأسها وقلبها فإن قلبها لن يلبس السواد . هو ليس منطق تضاد إنما عربون الشباب الدائم “للمهبولة” / الرمز الذي يسكن الذات الشاعرة قصيدة كان أو وطنا أو حياة، شباب بأسئلته وعنفوانه وثوريته.

منطوق ( ث) ( ص101)

“تقلقها الطريق وهي حابسة

نسلفك زوج خطوات؟”

  ولأن الشعر هو أن ترى الأشياء من زاوية خاصة مدهشة، كأن يرى الشاعر الطريق قد توقفت عن المشي والسير، والحال أن الذي

يتوقف هم المشاة. وحينما يجعل الشاعر بوكبة الطريق متوقفة  عن السير ( الطريق حابسة)، فإنما يرسم لنا  انزياحا جميلا … لكن  ما الذي يقصده الشاعر بالطريق، وما وظيفتها هنا؟ أيقصد طريق تطور المجتمع؟  أم يقصد النمو اقتصادي؟ أو حركة فكرية معينة  خصوصا أن الشاعر يصر على أن يجعل هذه الطريق صاحبة.

 رغبة في الحركة (نسلفك زوج خطوات؟) المشي فعلا تطور إلى الأمام كيفما كانت اتجاهه، هو فعل ارتقاء ونحن من يمكن أن يمنح الطريق حركية التقدم عبر منحها خطوتين.

منطوق ( ت) (5 102 )

 1 – 67 – 13 – 2″

تعرف تحسب

بالصح لرقام تتلف

للي مينويش

يسرق بها”

      حينما تكون الأرقام وسيلة للاحتيال والنصب والسرقة، فإنها  لا تعرف الحساب، لأن الأمر  يتعلق بتوظيفها من أجل السرقة. وطبيعة السرقة هنا هي رمزية  تلك الأرقام  التي استهل النص بها

في السطر الأول.  ولا شك في كونها استثمارا ذكيا لكلمة السر الخاص بفتح الخزانة. الحديدية ( coffre- fort) . إن إمكانيات تأويلية متعددة واردة ، لكن الاحتمال الأقرب يبقى هو خزينة الدولة بما تتضمنه الإشارة من حمولة سياسية واضحة.

منطوق (أ) ( ص104)

تحشم تاكل وحدها

يحشمو ياكلو معاها

تستنى الليل باش ترميلو لقمات

ليل ” المهبولة”

كلب جايع

مينبحش”.

          تيمة الليل في ديوان الشاعر تكاد تهيمن على مختلف نصوصه،  بحيث يمكن القول إنها لوحدها  ( أي تيمة الليل )تستحق مساحة للاشتغال. فحضور الليل يمتد على صفحات الديوان بدءا من العنوان، ثم غوصا لوحاته / الشذرات المسترسلة في مركز بياض صفحاته.

  لقد كان الليل وما يزال  بما يحتويه من مظاهر كونية  “….مصدراً غنياً للشعراء يستمدون منه المعاني ويستوحون الصور، وكثير منهم كانوا يتخذونه ملاذاً يفرون إليه من متاعبهم، كما اتخذوا منه أيضاً معبداً يتغنون فيه بقيم الجمال وآيات الجلال في شتى المظاهر؛ غير أن بعضهم نظر إلى الجوانب المظلمة منه فاتخذ من لفظه ستاراً يعبر بوساطته ـ رمزاً ـ عن كل ما يعجز عن التعبير عنه صراحة إزاء ما يعانيه من مشاكل الحياة في جميع أوجهها.  وإن ما يشير إليه لفظ الليل من دلالات غالبا ما تكون  موضوعية متنوعة ومتعددة تشمل المظاهر السياسية والوطنية والقومية بالإضافة إلى المظاهر الاجتماعية والذاتية..” 6

“والليل ليس فقط غياب الشمس، إنه زمن نفسي فيه الهدوء ويحلو فيه التفكير. الليل حكيم، كم حلولا وجدناها لمسائل النهار ومشاكله.

“la nuit porte conseil  ” كما يحلو للفرنسيين قوله ، وليل

المهبولة جوع لا يعرب عن نفسه ” كلب جايع .. مينبحش” .الجوع تعبير رمزي أيضا يحيل على خصاصة كثيرة.

 

 وأنا أقف عند الألف، الذي هو بالمناسبة حرف مهم في عرف المتصوفة هو بداية الأبجدية يتوسط جل الحروف كتابة (باء/حاء/كاف / ياء…)  و يأتي في صفة ياء فقط في بعضها ( ميم/ سين / غين …) ويؤل في هذه الحالة على أنه انحناء فقط ، أستعيد فكرة معاودة القراءة من ليل ” المهبولة ” الجائع والنزول للياء ملء للفراغ الذي تُرك لنا في بداية مقلوب الأبجدية (منطوق الياء) . تمرين أكيد قد يحاوله كل من تمكن من الحصول على ديوان ” ظلك ف ليل الغابة شجرة”.

****

ملحق الملحقين

كما أسلفت فإن الديوان موزع بين أربعة عناوين فرعية: أبجدية مصلوبة / ملحق / أبجدية مقلوبة / ملحق. ليس مجانيا أن يرد عنوان فرعي هكذا “ملحق” فبالإطلاع على مصطلح ومفهوم الكلمة في قواميس اللغوية نجد:

“ملحق الشيء يعني الزائد وملحق الكتاب ما يلحق به من إضافة أو زيادة بعد الفراغ منه، معلومات جديدة ملحق الجريدة صفحات داخلية مضافة إلى الجريدة وفي الاتفاقيات تعني إضافة توضح ما هو غامض فيها مع بعض البنود التفسيرية.

لماذا عنون الشاعر بوكبة جزءا من أجزاء ديوانه بعبارة  “ملحق”؟ نطرح هذا السؤال آخذين بالحسبان أن الرجل مولع بالاقتصاد في الكلام، لا يمكن أن تجد كلمة حشو في عمله “.  فهل نفهم الأمر على هذا المنوال؟ إن الشعر اشتغال على اللغة بحثا على التركيب الانزياحي في أجمل تجلياته الممكنة، لذلك يمكن أن نطمئن إلى أن بوكبة لا يمكن أن  يستهين بالمصطلحات ولا بدرجات الدقة في توظيفها.. يمكن أن نلمس ذلك جيدا بعودتنا إلى بعض ما ورد في الملحق الأول:

” واش بين الله وشجرة اللوز؟

تفتح لو ذرعيها

يبوسها

تنبت زهرة

يا قصيدتي

علاش تحبي الضرة” ( ص 37)

” نويت نبوسك

العين حشمت م العين

بست شبيهتك : قصيدتي” ( ص43)

 “قصيدتي فيك

حاسة بمزيتك عليها: بستيها

شاورتيني كيفاش ترجعها لك

قلتلها: أديني / جيبها نبوسها.” (44)

 عبر هذه القرائن يتضح أن الكتابة /الشعر لدى الشاعر شبيهة للتي “جننته” فهي مرة شبيهة الزهرة اللوز/ قبلة الله ومرة “ضرتها” وأخرى قبلة ديْن لن تعيدها غير قبلة أخرى قبلة الشاعر.

 “ضحكتك

تخلي لخريف ربيع

والربيع ” قاعة انتظار” الجنه

الناس تطلب تدخل

وانا نطلب نستنى” ( ص45 )

 “خايف عليك من عين الشمس

تشرقي بلا وقت

وتكسري معنى العادة

شوفتك عبادة

وشوفت الشمس ” خيار الأعمى” ” ( ص 48

 “اليوم اللي منشوفك فيه

نسميه: طفاية العدم”  ( ص54

     يلاحظ كيف أن بوصلة الشاعر تحول عدستها نحو تلك

“المجنونة” التي تسكنه  متغزلا بها  متوددا إليها،  وهو في ذلك يقوم باستثمار مجموعة من القرائن  الدالة على ذلك (ضحكتك/ شوفتك/ عليك / منشوفك ” …الى آخره)، حيث يرغب الشاعر في معشوقته المجنونة  قبل رغبته في دخول الجنة. لأن  فردوسها المغري أسبق من فردوس الاخرة . وهو لا يطيق غيابها، لأن غيابها يعني العدم. من تكون إذن هذه المعشوقة ؟    لن تكون هي القصيدة طبعا، لأن القصيدة جزء منها، هي أكثر من القصيدة كما أسلفنا. وهذا ما يبرر كون الملحق” جزءا رئيسيا من المؤلَّف. وهو لذلك أيضا يكاد يتكافأ الجزآن  شكلا من حيث  عدد الصفحات الجزء الأول  (30 صفحة / 33 صفحة)  وفي الرؤية الشعرية المتكاملة مع الأبجدية المصلوبة وفي البناء والاشتغال المخالف على اللغة ، لا إضافة أو شرحا أو زيادة.

إذا كان الملحق الأول استدراجا ذكيا لدهشة أبجدية مصلوبة أدخلنا لنص شعري متكامل مع سابقه فإن الملحق الثاني لعبة “غميضة ” ورطنا فيها المبدع بتذييلٍ حمل مكانا وتاريخا (مسرح القوس (معسكر) : 2015) مع مرافقته بإيماله:

 ([email protected])

بهذه الشطحات يذكرني المؤلف في أساليب مخرجي أفلام سينما الموجة الجديدة حين يضمنون أفلامهم رموزا من خارج المعتاد في السينما . طبعا البريد الإلكتروني دعوة ضمنية للتواصل معه و إشارة لأهمية القادم الرقمي في حياتنا الثقافية. لا أستطيع فك شفرة المكان في هذا المقال ، لكن ووفقا للسنة المدرجة فيه ( 2015) أحدس إلى سابق النص/الملحق عن أجزاء الديوان الأخرى.  فكرة قد تزكي ما ذهبت إليه في الطرح الذي يروم قلب الأبجدية المقلوبة لتستوي ويصبح النص الملحق هو النبع الذي سالت منه قصائد الديوان.

 وحكاية ” المهبولة” في نومها الذي كشف عنه المبدع الراوي  في أبجدياته مصلوبة كانت أو مقلوبة أو مضمرة في ملحق أول.

 “غنات فوق جرحها

بانجليزية مكسورة

ما تعرفش لغنا

متعرفش الإنجليزية

بالصح تعرف كيفاش تعفس على جرحها وتغني

كيفاش تعلق دمعتها فسما صبرها

وتقوللها: ستناي تجيبك الفرحة فيدي

نمسح بك لرض

ونخليها تشطح للنجوم” (ص107

الشعر لعبة ساحر يخرج من صندوقه فاكهة خارج فصل نضجها ويغير تفاحة لحمامة أو يخرج الماء من أوراق جريدة… هكذا هو عبد الرزاق بوكبة ساحر يضرب بعصاه ويسحرنا.  من هذه الغائبة التي لا تعرف الغناء وتغني لا تعرف كلمات الأغنية لكن تعرف كيف تنكأ الجرح وتغنيه وتصنع من دمعها سماء وأرضا راقصة لنجومها.

 “كان بوب ديلان، يمسد روحها بايد صوته / كان صوته عطشان للروح / على ذيك ما كفاتوش سوواقي الدنيا/ راح يشكي للدالية / وكانت الدالية زعفانة على الشمس/ شكون حضر هوشه بين الشمس والدالية /هذاك هو السكران اللي ينفع لحكاية، وتنفعو علامات الإستفهام.

كلام الدالية عنقود ضو

كلام الشمس ظلمة تحتاجها العين باش تشوف العنقود” (ص107).

 استحضار المغني العالمي بوب ديلان رمز موجة الهيبيزم العالمية التي ناهضت الحرب ودعت للسلم والحرية الجماعية والفردية  والأجواء التي سادت تجمعاتهم ( الروح / الجسد/ العطش / الدالية / الشمس/ الثمالة/ علامات الاستفهام /الضوء / العين التي ترى كلام الدالية.) هي ” المهبولة” القادمة محملة بأحلام الهيبيزم التي غناها “بوب ديلان” لجيل تأبط الفن والحرية ضدا في الحرب والقمع تطل علينا في نهاية الديوان لترحب بنا بباب يفتح لا لندخل منه لكن لنخرج لرحابة القيم الإنسانية التي تسكن طي الأبجدية التي لونت لوحات / شذرات الديوان.

****

        إذا نحن عدنا إلى  نصوص الأجزاء الثلاثة الأولى ( أبجدية مصلوبة والملحق وأبجدية مقلوبة) ، نجد أن كل نص إنما هو عبارة عن مجموعة شذرات تتمتع باستقلال  ذاتي (بلغة السياسة) . تترابط  وتتعالق فيما بينها بشكل ليس تراتبيا بالضرورة ، حيث يمكن أن نغير ترتيب الصفحات دون أن نفقد رؤية النص ودلالته. كأني بها شذرات/ كواكب تسبح في نظام فلكي ومرتبطة بينها بجاذبية حول مركز وهمي يحقق وحدة القصيدة. نكون إذن بلغة الفلك أمام القصيدة / المنظومة مقابل القصيدة الخطية التقليدية. والديوان/ المجرة التي تتكون من ثلاثة أنظمة شمسية / زجلية وملحق.

على سبيل الختم أقول:

الديوان ملحمة أبجدية الماء / ماء الشعر، يُسعدك غرف قبضة منه والتلذذ به وهو ينساب بين أناملك / عيونك لتعاود القبض على مويّجات أخرى وتتلذذ بضياعها وهي تنز من بين أصابعك من جديد.

 

أستعير من المبدع ذاته هذا المقطع / القصيدة:

 “ف يدك صيف صغير

حطيها فيدي

نجيبو لو بحر على قده” ( ص 62)

لأوقع شهادتي: المناولة / الدراسة بحر بحجم صيف الأبجدية، ظلال/ شمسيّات منصوبة في شاطئ غابة من أمواج زجلية ضاربة في الإمتاع والدهشة.

هوامش:

 1- ظلك فليل الغابة شجرة،  ديوان زجلي للمبع الجزائري: عبد الرزاق بوكبة 

2-  من إصدارات الشاعر “يبلل ريق الما” و “الثلج نار”

3- سطر واحد يكفي ” ديوان مشترك للشاعر احمد لمسيح والفنان التشكيلي عبد الحي الديوري 2018 الأمنية الرباط

 

4- المصلوبة قد تحيل للصليب وتمكن من تأويلات إضافية أخرى عدم موت الأبجدية “وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم / .سورة النساء الاية 157

 

 5- سورة الأحزاب   الآية 72

 

6- رمز الليل في الشعر العربي الحديث: دلالاته وبناؤه الفني،عزت محمود علي الدين ، دار النور للنشر ، ط 1 ،ص 45

 بقلم: احميدة بلبالي

Related posts

Top