من فعاليات موسم أصيلة الثقافي

تتواصل فعاليات الدورة الثامنة والثلاثين لموسم أصيلة الثقافي، حيث تم تنظيم ندوة فكرية حول موضوع ” الحكامة ومنظمات المجتمع المدني”، سعى المشاركون من خلالها إلى إبراز الدور الذي يمكن أن تلعبه آليات الحكامة في تحقيق التنمية، في ما يخص تجربة المؤسسات المنتخبة والمؤسسات العمومية ومراكز صنع القرار، عن طريق الوسائل التي توفرها المنظومة القانونية وآليات الشراكة والخبرات المكتسبة والمتبادلة عبر الفعل المدني، فقد حرص الأستاذ المختار بنعبدلاوي في تنسيقه لهذه الندوة الفكرية، على تحديد الاختلاف الاصطلاحي بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، حيث يرى أن الصيغة الأولى، يقصد بها المجتمع دون مستوى المواطنة، وهي تتميز بمشروعية تقليدية وتحتكم للعرق، في حين أن الصيغة الأخرى تقوم على شرعية المواطنة. وتناول بعد ذلك الظروف التي مهدت لظهور منظمات المجتمع المدني، خاصة في المغرب، حيث أشار إلى أنها ولدت بهواجس سياسية وأن الهدف منها في البداية كان هو الابتعاد عن مطب الحزب الوحيد بما يمثله من تسلط وخنق الحق في الاختلاف، كما كانت تروم إعطاء امتداد للحركة الوطنية داخل المجتمع. لقد تم النظر – يضيف بنعبدلاوي- إلى المجتمع المدني ليس باعتباره فعلا سياسيا مستقلا بل أداة لاستقطاب الأحزاب السياسية.
 في الفترة الموالية، خصوصا في سنوات الثمانينات من القرن العشرين، صارت منظمات المجتمع المدني تحمل خصائص أخرى، تتجلى بالخصوص في الاهتمام بالقضايا القطاعية، كما حلت الخبرة محل البعد الإيديولوجي، وصارت بالتالي تقترب من نموذج المقاولة والشركة التجارية، وتحمل مواصفات اللوبي وتشكل قوة اقتراحية لا محيد عنها، بل تؤثر على مراكز القرار. هذا الوضع حسب بنعبدلاوي، بات يشكل تهديدا للثقافة الجمعوية التي كانت تهتم بالجانب التطوعي. غير أن هذه التحولات -يضيف بنعبدلاوي- ما هي سوى انعكاس لطبيعة فاعل جديد يتلاءم مع وسائل التواصل الجديدة. مطالبا مع ذلك بضرورة الحفاظ على الجانب التطوعي في طبيعة اشتغال منظمات المجتمع المدني، حتى لا يطغى الجانب السوقي على الجانب الإنساني.
 وتطرق المحلل السياسي المصري جمال سلطان بدوره إلى الإشكالية الاصطلاحية التي تحدد الفروق بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، مؤكدا على أن الصيغة الأولى هي الأقرب إلى الحالة العربية وهي كذلك الأرحب للتعبير، في حين أن الصيغة الأخرى قد تتعارض مع القطاع الريفي أو الديني وما إلى ذلك.
 ودعا بعد ذلك إلى ضرورة إحياء تواصل بين الحداثة والتراث، واستنبات ذلك في سياق مجتمعاتنا، مؤكدا في هذا السياق على أن الخلل الثقافي والفراغات التي تتخلل مجال تفكيرنا كانت من بين الأسباب الرئيسية التي أفضت إلى ظهور وباء الإرهاب.
 وتطرق جمال سلطان كذلك إلى الجانب السلبي في ظروف اشتغال منظمات المجتمع المدني، في كونها معظمها ممولة من الخارج، مع العلم بأن أولويات هذا الأخيرة هي غير أولويات الداخل، لا بل قد تتعارض معها في كثير من الأحيان. من هنا تبرز خطورة التمويل الأجنبي. وطالب جمال سلطان في هذا السياق منظمات المجتمع المدني بضرورة ملء فراغات فكرية ومعرفية وروحية.
 وفضل راشد صالح العريمي الكاتب الصحفي الإماراتي ورئيس تحرير جريدة الاتحاد سابقا، تحديد أهداف المجتمع المدني، حيث أوجزها في تحقيق الشفافية ومكافحة الفساد، كما يتجلى دورها في تكريس قيم المواطنة والتوسط بين الفرد والدولة وتعميق المساءلة الاجتماعية.
 وتطرق بعد ذلك إلى دور الحكامة في ضبط عمل المجتمع المدني، سيما في ظل استخدامه من طرف قوى أجنبية  كورقة ضغط تؤدي به إلى الانحراف عن الأهداف النبيلة التي خلق من أجلها، من خلال إصدار تقارير مزيفة لإثارة القلاقل. مشيرا في هذا الإطار إلى أن المجتمعات العربية لها خصوصيات لا تسمح لها باستيراد قالب جاهز من الغرب، وبالتالي فإن الحكامة تقتضي منها أن تأخذ ما يتناسب مع أعرافها وتقاليدها.    
 وأبرز فؤاد العماري الباحث في مجال التنمية ورئيس الجمعية المغربية لرؤساء الجماعات، الحاجة إلى المجتمع المدني الذي يحمل القيم الثقافية والتنويرية في مواجهة زحف الدواعش والأفكار الظلامية التي تسعى إلى نسف المكتسبات الوطنية والعربية، مطالبا الفاعل المدني بالحلم والمساهمة في بناء وطنه وحمايته.
 وأشار فؤاد العماري بعد ذلك إلى أن أزمة التنمية في الأساس هي أزمة حكامة وليس موارد مالية، مثلما أنه في غياب الموارد المالية من الصعب أن تكون الحكامة هي المحدد الوحيد والأساسي للتنمية، من ثم – يضيف العماري- تكمن أهمية الشراكة بين المجتمع المدني والمجالس المنتخبة، وهي منهجية معمول بها على الصعيد الدولي، منهجية تقوم بالأساس على الانفتاح والتكامل بين كافة أطراف التنمية.
 وشدد العماري في هذا الإطار على ضرورة تحويل العلاقة بين منظمات المجتمع المدني ومؤسسة الدولة من التنازع وغياب الثقة، إلى علاقة يسودها الانفتاح، علاقة مبنية على الثقة المتبادلة، وإدماج المواطن وجعله منخرطا في دينامية التنمية.
 وتطرق بعد ذلك إلى انبثاق فكرة ميثاق المدينة، تتعاقد عليه مؤسسات رسمية وشبه رسمية وفعاليات المجتمع المدني والمنتخبين، ويتم التوافق على هذا الميثاق ويكون ملزما لمختلف المتدخلين، مؤكدا على أن الحكامة هي أساس للشراكة المرجوة، وأنه ليس هناك حكامة جيدة وأخرى غير جيدة، وأنه لا بد من تأهيل المجتمع المدني لأجل الانخراط في عملية التنمية ومواكبة الدينامية التي يعرفها المجتمع ككل.
 وأبرز الباحث الموريطاني أحمد فال في مستهل مداخلته، أن المجتمع المدني مستقل عن مؤسسات الدولة سواء السياسية أو العسكرية أو المدنية، وأن العلاقة بين المجتمع المدني والحكامة تقتضي أن تكون تكاملية لأجل تقوية الدولة. وتحدث بتفصيل عن النموذج الموريطاني بهذا الخصوص، حيث أشار إلى أنه ذو طبيعة قبلية وأن ديمقراطيته مهداة على مقاس العسكر، وبالتالي فإن هذه الأرضية الهشة لا تسمح بأن يكون هناك أداء متميز وفاعل للمجتمع المدني، رغم وجود تراخيص كثيرة ووافرة لمنظمات المجتمع المدني، حيث تشكو من ضعف التأطير والإنتاج وتعاني من الانشطار، كل هذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى عكس ما هو مأمول منها.
  وتحدث علي عبد الله خليفة الشاعر ومدير إدارة البحوث الثقافية بالديوان الملكي والأمين العام لجائزة الشيخ عيسى لخدمة الإنسانية بالمنامة، عن تجربة المجتمع المدني في دولة خليجية هي البحرين من خلال مؤسستين ثقافيتين: أسرة الكتاب والأدباء البحرينيين والملتقى الثقافي الأهلي. مشيرا إلى أن المجتمع المدني تأسس في ظل الاستعمار. وأن ما ميز أسرة الأدباء كونها جمعت شعراء وقصاصين وروائيين وصحافيين لهم انتماء لأحزاب سرية، لمواجهة ومقاومة الاستعمار والدعوة للتحرر. وفي أواسط التسعينات من القرن العشرين- يضيف علي عبد الله خليفة- تم تأسيس الملتقى الثقافي الأهلي ليحل محل أسرة الأدباء وليشغل الفراغ الذي خلفه هذا الأخير، واتسم عمل الملتقى الثقافي بطرح قضايا مجتمعية والحرص على إيصال المطالب الشعبية إلى الجهات الرسمية، كما طرح إشكالية الحرية وكان طرفا أساسيا في ملف الديمقراطية.
 وخلص إلى القول إن دور الفاعل المدني في علاقته بالسلطة، هو العمل على تحقيق المصلحة العامة دون أن يكون بوقا لهذه السلطة.
 وتناول حيدر سعيد مرزة الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ما أسماه بصعود وهبوط المجتمع المدني في الثقافة العربية، مشيرا إلى أن بروز ظاهرة المجتمع المدني في المنطقة العربية تم على إثر انهيار المنظومة الاشتراكية وانبثاق العولمة وصعود الليبرالية الجديدة التي تقوم على أساس دولة الخدمات. ذلك أن الانشغال بإعادة بناء الدول ما بعد النزاعات أصبح هو السائد. فمع ثورات الربيع العربي، تغير مشهد المجتمع المدني، ولم يعد التمويل الأجنبي راغبا في الاستمرار، ومن ثم انبثقت فكرة الشراكة مع الدولة، غير أن هذا الوضع يظل متحفظا عليه، على اعتبار أنه ينفذ أجندة الدولة.
 وأشارت ليلى بناصر مديرة مركز النشر العلمي بجامعة البحرين بالمنامة إلى أن المجتمع المدني عرف تناميا خصوصا بعد الحراك الاجتماعي مع تفاوت في التأثير الإيجابي أو السلبي. كما تجلى في هذه الفترة وعي الحكومات بأهمية المجتمع المدني في تكون الدولة، ومن ثم حصل هناك تقارب أكثر وتعاون بين الطرفين. لقد انتبهت الحكومات-تؤكد ليلى بناصر- إلى أنها أصبحت تفتقد إلى الطرق الناجعة لحل المشاكل الاجتماعية، وبالتالي وجدت ضالتها في المجتمع المدني. واستحضرت المحاضرة ليلى بناصر في هذا الإطار إحدى الجمعيات المهتمة بحقوق الطفل في البحرين، جمعية أمنية الطفل، حيث بينت ظروف اشتغالها والأدوار التي تضطلع بها، فهي تقوم بزيارة للعائلات داخل مقرات سكنها وتنظر في حاجياتها وتعمل على تمويلها ومساعدتها مع الحفاظ على نوع من السرية، معتبرة ذلك طريقة مبتكرة ومكملة للدولة.
 وخلصت المحاضرة إلى أن العلاقة بين المجتمع المدني والحكومة هي علاقة متكاملة، وأن الديمقراطية لا يمكن لها أن تكتمل بدون شراكة بين الطرفين، مع امتلاك الشرعية وفي ظل دولة القانون.
وتحدث مظفر الربيعي مدير العلاقات العامة والإعلام بالعراق، عن دور المجتمع المدني في هذا البلد، مذكرا بأن هذا الفاعل لم يكن مسموحا به، وأنه كان يتم الترخيص فقط لنشاط النقابات العمالية والاتحادات المهنية، خصوصا في ظل الإكراهات المالية وضعف التشريعات، غير أنه في بداية الألفية الثالثة، مع تغير الوضع السياسي، شهدت البلاد دخول المئات من المنظمات الوطنية والدولية بشغف كبير إلى الساحة، باعتبارها تعكس المشهد الحقيقي لما يجري في الحقل السياسي والمجتمعي، وأنه بات يتم الاعتماد على تقاريرها حول قضايا مجتمعية مختلفة، إلى جانب إسهامها في إرشاد الدولة نحو التوجه الصحيح.  

مبعوث بيان اليوم إلى أصيلة: عبد العالي بركات

Related posts

Top