من وحي مسرحية “سماء أخرى”

داهمني قريني محتجا ذات ليلة عرض، وأنا بين السهاد والسهاد، فقال لي: لا تجعل ليلتك بيضاء، إنك تؤذيني. قلت: لا أقدر. بادرني بالسؤال: لماذا؟ أجبته حالما متلذذا: إنني في سماء أخرى. فقال لي: اكتب نقدا. قلت: ما أنا بناقد. رفع صوته عاليا في وجهي: اكتب مقالة. قلت بصوت هادئ: لم أتعود على النشر. فصرخ في عصبية: اكتب شيئا… بنفس الطبقة الصوتية أجبته: ما شاهدته اليوم أسمى وأعمق من أن يخط يراع ما أحس به، ولو كانت الخشبة قرطاسا. قبل أن يهم بالخروج توقف والتفت نحوي: إذن أنت تحب، اكتب لمحبوبك رسالة. وما أن اختفى حتى وضعت أصابعي على الكلافيي «لوحة المفاتيح» وكتبت

من متفرج عاشق، إلى مخرج معشوق

الموضوع: لماذا نعتتك في تدوينتي بالمايسترو «قائد الجوقة».
المناسبة: عرض مسرحية «في سماء أخرى». لفرقة «أكون».
باسم ملاك الركح اللعين أكاتبك، وبعد؛
لقد استطعت أن تترجم في «سماء أخرى» مقولة «إن المسرح فن جماعي»، حيث عملت على تركيب كل عناصر وجزئيات العرض تركيبا جماليا، في تلاحم نسقي عضوي، نسج خيطا رفيعا بين جميع مكونات العمل.
لقد ترجمت، على أحسن وجه، مقولة «من أجل أن يشتغل الإنسان بالمسرح يجب أن يكرس نفسه له»… كنت مهندسا أبدع تصميم عرضه المسرحي بكل دقة واحترام لكل مكون من هذه المكونات، واستطعت أن تصهر فريق عملك في رؤياك، وأن تقنعهم بشكل البناء الذي كنت تراه على تصميمك، فشاهدنا هذا الصرح مجسما على الخشبة. لقد أثبتت مقولة «ليس كل مخرج معد»، فالإعداد يتطلب إلماما وحرفية واحترافية في فن الكتابة المسرحية.
استطعت أن تحول عمقك الفني الشخصي إلى عمق فني جماعي، فأصبح العاملون في العرض، حاملي مشروع فني. إنك رفعت المنطوق على الخشبة من مستوى الحوار إلى الحجاج الفلسفي، بخصائصة من تشابه مع السياق، ونسبية، وقابلية للتبديل، لم أشعر في أية لحظة بأنني أمام سفسطة أو حجاج مغالط يعتمد على تسفيه رأي وموقف الآخر… ذكرني هذا الحجاج، لقوته، بأنتيكون وهي تقارع أختها إسمين، وبمسرحية ريجينالد روز «12 عشر رجلا غاضبا»..
لقد جعلت الشخصيات الأربعة على صواب، لانسجام موقفها مع مبررات هذه المواقف وتفسير ظروف اتخاذها، فاحترت أن أكون مع من، أو ضد من… كنا أمام أربعة أبطال عوض بطلة واحدة (هنا تكمن إحدى نقط قوة إعداد النص)، وكانت الشخصيات بمثابة أساسات لبناء درامي محكم… كتمت أيها المبدع أنفاسي كمتفرج، حتى في المواقف المضحكة أدخلتني إلى دوامة من التردد، وتركتني حائرا متسائلا: هل علي أن أضحك أم أمتنع عن ذلك؟ لأنك دفعتني إلى أن أفكر فعلا فيما يجب على فعله للمساهمة في إنجاح العرض/التحفة. فصحت في داخلي، كي لا أكسر سكون القاعة الإيجابي، «المسرح ليس ملاذا للتسلية وتزجية الوقت»، ومع توالي الصور صرت أخاف على العرض كخوف الأب على ابنه، جعلتني أحمل مولودك في أحشائي، بترصد وسبق إصرار، مستسلما لسيل الأسئلة الجارف الذي داهمني، ليس على حين غفلة كما يقال.
لقد قمت بإعداد نفسي وبدني داخلي للممثل، انعكس على أدائه الخارجي، من حركات وإشارات وتنقلات وأصوات ونظرات وصمت… وصمت، فجعلتني أزداد إيمانا بالمخرج المدير للممثل.
• هجر، ليست هي الممثلة التي شاهدتها في الأعمال السابقة. إنها هجر المتفوقة على نفسها من عرض لآخر. إنها هجر الإبهار… هجر وكفى.
• سعيد، في كل عمل تحفر في زواية من زواياه الداخلية الغنية، فتحفزه على إبراز أجود ما عنده. سعيد عين لا ينضب عطاؤها…إنه التحدي المستمر.
• جليلة، دفعتني إلى أن أتساءل: أي تلمسي هاته التي أراها أمامي؟، ليست هذه هي جليلة التي أعجبت بأدائها فيما شاهدته سابقا فصرت من عشاقها، إنها أبدع وأروع بكثير، فصرخت في خشوع الزاهد «لا جليلة إلا أنت»، وأخاف من أن تتحول يوما إلى معبودتي.
• أسامة كان مقنعا لأقصى درجات الانبهار…هاشم، رأيته وكأنه يجر من ورائه المئات من الأعمال المسرحية أدت به إلى هذا الأداء المتوهج الناضج.
أيها المايسترو، بلغ قبلاتي إلى كل فرد من أفراد الجوق الذي أطربنا بهذه السمفونية، قبلاتي لا أريدها على الخدود ولكن على الجباه تقديرا واحتراما.
وفي الختام وقبل أن أرفع أصابعي عن الكلافيي «لوحة الحروف»، أرفع قبعتي لك ولطاقمك.

> بقلم: عبد اللطيف فردوس دراماتورج وناقد مسرحي

Related posts

Top