نبوءات الكتاب أم خيالات الكتابة

عندما احترقت كاتدرائية نوتردام في أبريل من العام الماضي، قيل -في مراجعة نقدية- إن فيكتور هوجو كان قد تنبأ بحرقها قبل مئة سنة في روايته الشهيرة “أحدب نوتردام” في مشهد سردي يصف فيه حريق الكاتدرائية كما لو أنه حدث في تلك الفترة. أي أنه وصفَ مستقبل الكنيسة التاريخية قبل قرن وقد تحقق له ذلك.
المستقبل السياسي الافتراضي وصفه جورج أورويل في روايته المعروفة “1984” هو مستقبل سيأتي بهذه السردية المثيرة للجدل عندما قلب التاريخ وجعل بينه وبين الرواية فاصلة زمنية طويلة، مثلما أشار في روايته الأخرى “مزرعة الحيوان” إلى الثورة الروسية في خيال السرد السياسي لتأسيس جمهورية وطنية مفترضة ذات قوى تهيمن على العالم وتقتسمه.
وقد تعرض الراحل نجيب محفوظ إلى تنابزات نقدية كثيرة حول روايته “ثرثرة فوق النيل” التي “تنبّأت” بهزيمة 67 بوصفها رواية متشائمة قالت ما يجب ألّا يُقال في تلك الفترة السياسية. وحتى عندما بررت السلطة بأن محفوظ هو واجهة أدبية مصرية، لكنّ بلاغة التأويل تخطّت حدودها.
الشاعر محمد مهدي الجواهري بفصاحته الشعرية؛ وقد باعدت بينه سنوات وعقود طويلة وبين ما يحصل الآن في العراق من حراك شعبي شبابي واسع النطاق، أعيدت إلى الذاكرة داليته الشهيرة كرؤيا نبوئية:
“سينهضُ من صميم اليأس جيلٌ مريدُ البأسِ جبارٌ عنيدُ/ يقايضُ ما يكون بما يُرَجَّى ويَعطفُ ما يُراد لما يُريدُ”
مثل هذه الشواهد وغيرها مما سيأتي ذكره هل تشير إلى (نبوءات) أدبية تتحقق لاحقا وإن طال الزمن بها؟ وما هي قدرة الكاتب الأدبي على الوصول إلى المستقبل؟ وهل النبوءات علمية أم أدبية أم أسطورية أم خيالية؟ أم هي مزيج بين كل هذا؟
في العلم لدينا حقائق لا تزال ثابتة. وبعضها متحرك حسب اكتشافات العلم التي لا تنتهي. لكن سرديات العلم الأدبي أو الأدب العلمي الكثيرة تخرج عن نطاق كتابتها الحاضرة لتصل إلى المستقبل أو افتراضه والتنويع عليه بأقصى درجات الخيال المرسومة على بيانات علمية حقيقية أو مفترضة أو جانحة إلى الخيال الروائي، كما في سردية الأيرلندي جوناثان سويفت “رحلات جاليفر” التي صدرت في الربع الأول من القرن السابع عشر. عندما ذكر فيها أن هناك قمرين يدوران حول المريخ. وكان محض افتراض أدبي بخيال السرد ومتعته الفنطازية، لكن بعد 150 سنة تقريبا أعلن أحد علماء الفلك عن اكتشاف قمرين يدوران حول كوكب المريخ. فهل هذه مصادفة؟ أم فراسة؟ أم تهويمات خيالية هربا من الواقع؟ أم أن الاكتشاف الأدبي الأسبق هو “المتنبئ” الأول لكن من دون رصيد علمي؟ وهل العلم يثري الأدب أم أن الأدب يثري العلم بالخيال باعتبار أن الأدب مصنع الخيال وأن العلم لا يقرّ بالخيال إنما هو رصد ودراسة وتحليل ونتائج؟
وفرة النماذج الأدبية؛ السردية على وجه الخصوص؛ تحيلنا إلى أكثر من مصدر يقع بين العلم والأدب كمؤسس لهذا النوع الأدبي في أسبقيته الزمنية، فرواية ألدوس هكسلي “عالم رائع جدا” تقع في هذا التأطير النبوئي ذي الخيال العالي وهي ترى شكل المستقبل وتصفه، بينما “آلة الزمن” لويلز أثرت أدب الخيال العلمي بالكثير من المفاجآت الشيقة، مثل كل رواياته ذات الأفق العلمي الخيالي التي تنبأت بوقوع الحروب في الأربعينات والخمسينات.
 ومع أمثلة مناسبة من هنا وهناك سنجد بأن خيال الأدب أكثر صلة بالمستقبل حتى لو كان افتراضيا، فالخيال الاجتماعي الفائق والجنوح إليه في روايات خارجة من سرديات أفق المستقبل الكبرى، هو ما يجعل العلم ينظر إليها بجدية كبيرة ويحلل عمقها الافتراضي، كما رأى العالم النوبلي الياباني ميتشيو كاكو في كتابه الممتع “فيزياء المستحيل” عندما عرّج على تآليف أدبية في كتابه تتنبأ بإمكانية عبور الزمن أو العودة إلى الماضي.
 أو ما تنبأت به أفلام الرسوم المتحركة وهي تخترق الأزمان بطريقة سوبرمانية شيّقة لتنشيط خيال الأطفال. فعدّها خيالات غير عقلية لكنها بمزايا ممكنة الحدوث. ومثله عالم الاجتماع رايت ميلز الذي عكف على قراءة بلزاك كثيرا ليتفهم المزايا الطبقية في المجتمع الأميركي وسلوكيات الجماهير وتحليل شخصياتهم بما يعكس النوع الاجتماعي الأميركي بين الطبقات.
ولما وُلد علم الاجتماع الأدبي تم اعتماد الرواية التاريخية مصدرا من مصادر التاريخ، بوصفها أثرا اجتماعيا تاريخيا تشير إلى النوع والسلوك في زمنيته الماضية. ولما ولد علم الاجتماع الأدبي عُني بمصدرية النوع الاجتماعي وتحليله طبقا لتاريخية ظروفه في محاولة لإبراز صورة الماضي الاجتماعي. ولو فصّلنا الموضوع كثيرا لرجعنا إلى نصوص فرعونية وسومرية في الآداب القديمة سنجد فيها مثل هذه النبوءات إما لتحقيق الدعاية السياسية وإما لأغراض التنافس السياسي، فمثل تلك النبوءات التي لا تخلو من السحر والأسطورية هي قديمة بالفعل يُراد منها توفير غطاءات معينة للملوك والأرباب ومَن هم بدرجتهم الدينية والأسطورية.
نبوءات الكتّاب العشوائية هي منطقة كتابة خارج العقل الأدبي كما يبدو. وفنطازيا الشعور بالزمن المتحرك ماضيا وحاضرا ومستقبلا أمر ملتبس كثيرا في حقيقة العلم ومشواره الطويل في تفكيك آليات الزمن والكون المحيط به، في حين مثل هذا التصور لا يعني الأديب كثيرا؛ بل يمارسه إما بعشوائية يريد بها التغريب السردي، وإما أنها فراسة ممكنة لكن بلا رصيد علمي. وربما هي رؤيا تصيب الكاتب في بعض الحالات حتى يخرج من طوق الواقع إلى فضاءات الكتابة غير المشروطة في تهويمات علمية قد يثبتها العلم لاحقا أو لا يثبتها.

> وارد السالم روائي عراقي

Related posts

Top