نجاة مفيد: مقامات الصمت

المتأمل لتجربة الفنانة التشكيلية نجاة مفيد ( تعيش وتعمل بالدارالبيضاء) يجد نفسه متصالحا مع طفولة الإنسانية، أقصد بنياتها الإيقاعية اللامتناهية التي تنهض كهندسة روحية حركية ورمزية في الآن ذاته. فما تقدمه هذه الفنانة هو جوهر الحداثة البصرية بعلاقتها الملتبسة والإبدالية مع الواقع في ضوء تحولات الزمن ومقامات التجربة. يمثل هذا الجوهر التشكيلي الخلفية المرجعية العامة لكل الأعمال الفنية التي رسمتها نجاة بالعين والإبرة، دون استسهال أو فبركة بنائية مفتعلة. من خلال تنويعات الموتيفات (أشكال متاهية، وحدات بصرية قد تحيل على رقم 8، وقامة المرأة، أو على الآلة الإيقاعية لدى كناوة أو الموجات الصوتية…الخ)، تمكنت نجاة من التعبير عن روح الشكل، ومن تقديم تصور لعلاقة جديدة بين عالم الأثر والخط، والنص البصري وفق تجربة ذاتية تعمقت لغتها الخاصة من خلال تكوين الفنانة بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدارالبيضاء ابتداء من سنة 1991، واحتكاكها الكبير بورشات الإجازة المطبقة في الفنون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدارالبيضاء ابتداء من سنة 1994.على غرار العمل الفني لدى بول كلي، يصبح المنجز الفني بالصباغة الزيتية حركة إيقاعية حول الشكل الفني بمختلف مفرداته البصرية، وإيحاءاته المشهدية.  
تتأسس حداثة نجاة على التصور ذاته الذي قدمه بول كلي (نظرية التشكيل) بوصفها سؤالا مفتوحا ومتاهة بصرية لا حد لتدفقها، على عكس طرح الناقد الأمريكي جرينبرج الذي يرى الحداثة البصرية كقصة لها خاتمة.

شذرات الحياة

عندما تشاكس ذاكرة الفنانة نجاة، تستقرئ على التو بأن التصوير البصري لحظة شغف بالكتابة انهمكت في صياغتها بلا انقطاع أو ارتباك. إنها تكتب بالأشكال اللامتناهية، مستندة على مبدأ التركيب، والاستبدال، والتبئير، والتشذير.
الحال، أن عمل هذه الفنانة يحررنا من الأوهام السائدة حول الجمال بمنطقه المعياري الصارم، لأنه يتجاوز بكثير الحدود المغلقة لمشهدية الزمان والمكان، ويستجيب لروح اللحظة الإبداعية التي تفوقت في تأثيثها بصريا بإخلاص كبير وحدس عميق.
إذا كان الهدف النهائي لكل الأنشطة الإبداعية هو البناء على حد تعبير الفنان المعماري الألماني فالتر غروبيوس، فإن نجاة تحرص على بناء عوالمها التشكيلية البوليفونية استنادا على مقولات الكيف، والتنويع، والفراغ، بعيدا عن قوالب الكم، والتنميط والامتلاء.
إلى جانب تمكنها الوظيفي من استثمار المواد التشكيلية والخامات الفنية، تتحكم الفنانة في إبراز البعد الرمزي والتعبيري لأنساقها البصرية، مولية اهتماما بليغا لجماليات التركيب، والإيقاع، والتخيل البصري بناء على المشهد التجريدي العام الذي ننصت إلى متاهته التشكيلية بالعين.
الملاحظ، أن أعمال الفنانة نجاة تكتسي طابعا تطهيريا يتمثل في التسامي بأرواحنا، ومساعدتنا على مقاومة نزعاتنا الفوضوية والتدميرية. أليس الإبداع تنظيما لانفعالاتنا، ومصالحة كبري مع حقائق دواتنا وجوهر رؤانا للعالم. قديما، اعتبر النغم صورة مهذبة للصياح، ورأى الإنسان إلى الموسيقى كتنظيم للأنين والتأوه.
إن العمل الفني الذي تألقت في نسج عوالمه البصرية الفنانة نجاة يعيد إلى أذهاننا العلاقة التفاعلية بين التشكيل والإيقاع، فهو يتمحور حول شذرات الحياة والحرية والإنشاء بلغة مجازية صرفة. تقول الفنانة في هذا الصدد:» الإيقاع موضوع بعمر الحياة نفسها وبعمر البشرية. إنه مسكن رمزي يتيح لنا إمكانية تمثل قضايا جوهرية عمرها من عمر الإنسان والكون، ألا وهي الانسجام والتشاكل والوحدة والتسامي». وتضيف:» الإيقاع هو جوهر التشكيل ومنقذه من الجغرافية البصرية الضيقة. فأنا أرابض دائما بالقرب من الإيقاعات الروحية باختلاف مصادر إلهامها، ورجع أصدائها. في كل لوحة أخلد إلى حضرة استعارية ومجازية طويلة، مستعيدة آهات السرائر الداخلية». لا جدال في كون تجربة نجاة صورة تعيد إنتاج المرئي «النثري» في شكل إبدالات للمرئي الفني، حيث تنهض كل لوحة كعمل بصري مفتوح –بتعبير امبرتو إيكو- و هو بالضرورة غير مكتمل. كل لحظة مرئية في عملها منشطرة و متشذرة ، كاشفة عن خفاياها و رموزها الثاوية. فهي لا تتأسس كرسالة تواصلية بالمعنى اللساني، أو بالمعنى التداولي. هاهنا، تحضر ملكة التأويل كعملية إدراكية لاستقراء المعاني الممكنة و المحتملة.

إشراقات اللحظة

إن ما تقدمه نجاة و هو كيمياء الحياة التي تظل معها و بها الروح الإنسانية شاعرية و عميقة في مقاربتها للأشياء و الكائنات . تقول نجاة «التشكيل كالموسيقى رؤية للعالم ونزوع طفولي نحو الأشياء الجميلة من اجل إعادة تشكيلها. انه، أيضا ، بناء للروح بالأساس وللقيم الوجودية للكائن. في اللوحة، يكون الإيقاع أكثر إيقاعية، و تكون الحياة أكثر حياة، مما هي عليه . فهو يظل فاتحة تعلن بداية التشكل و الارتقاء. يختزل الإيقاع في لوحاتي أحلام من ضاقت بهم سبل أسرار الوجود».
عندما تسبر أغوار الأيقونات الإبداعية التي نسجت متونها نجاة،  يتملكك إحساس رهيب بكون الفنانة تنتصر للغة تشكيلية عصية كل الإدراك و الإمساك بناصية معانيها. فنانة متمردة و مشاكسة جسورة، استطاعت بتواضع صناع الجمال و المعرفة أن تقدم لوحة متجددة في المكان والزمان  تذكرنا بمخاض الحساسيات الجديدة  الذي تحدث عنه الشاعر محمد السرغيني بإسهاب، مؤكدا ما نصه: «و الحق أن هذا مخاض تعقبه ولادة ثرية باذخة لأنه يستجيب إلى الناموس الكوني الذي يجعل العالم يدور مع مجراته الفلكية أنى دار دورانها الذي ليس تكرارا و ليس رتابة و ليس اجترارا، ما دام يفضي إلى الجديد الذي هو فعل الحياة الراهنة في الحياة المقبلة.».
في حضرة كل لوحة، نستوعب فكرة المخاض و الولادات المتجددة التي تنهل من فطرية الوعي البصري، و تنتصر للوجدان الذاتي، لكي يرقي إلى مستوى الحس الكوني. فما تقدمه نجاة جغرافية بصرية و ذهنية في الآن ذاته لا تكف عن التجديد، و التحديث، و مفاجأة متلقيها الفعليين و المفترضين. رفضت هذه الفنانة السير على سنن التصوير التشخيصي ببلاغته الإستشراقية المستنسخة، و تمردت على أنظمة الاستسهال التجريدي التي أصبحت عملة مسكوكة. هكذا، اختارت بكامل الوعي و بصادق الانتماء، الانخراط في جغرافية  بصرية جديدة تتخذ من الإيقاع الداخلي موضوعها المركزي و مرجعها الإنساني.
الفنانة نجاة لا ترغب في الانكفاء على المعايير التشكيلية المستهلكة، لأنها مهووسة بإشراقات اللحظة الراهنة و بالمصالحة مع ذاتها الصغرى و التفاعل  مع ذاتها الكبرى. من هنا، أتى التفكير البصري في الإيقاع الذي يترجم كيان الإنسان و جوهر حياته، و يتجاوز بالتالي كل الجغرافيات و الأزمنة و الإثنيات. صرحت لي في هذا الشأن: «يعبر الإيقاع جيدا عن مقولة الائتلاف في الاختلاف. فهو مجال معرفي، لاستيعاب النظرة الباطنية التي تقوم على التبصر الذاتي و التأمل الجواني الحدسي، قصد إدراك كونية الإنسان. إن العالم بإسره يخضع إلى منطق التغيير، أعني منطق الإيقاع الذي يشكل ديمومة الحياة و صيرورتها.».
الإيقاع في تجربة نجاة معادل للجوهر الإنساني للوجود، فهي ترسم الإيقاع بصيغة الجمع بدل أن تتكلم أو تكتب. إن ما تمشهده على اللوحة «يكلمنا» و يستدرجنا للتعبير عن أبجديتنا الأولى. على غرار الجميل، يدل الإيقاع على شيء مغاير لعالمه الظاهري، لأنه تمظهر تجريدي للفكر والحلم، ولغة متعددة الأشكال تقنعنا بأن الحس اللوني لامعادل لغوي له. تقول نجاة في هذا المقام:» فعل التصوير شبيه بفعل الكتابة. فهو ينم عن إيقاع متعدد الأصوات يتمحور حول الحياة الدينامية للأشكال والألوان. إنه لغة بصرية في شكل توزيع موسيقي روحي. أحاول أن أضفي روحا على أعمالي الإيحائية التي تفصح عن طبيعتي الداخلية وحالاتي الوجودية بولع وسخاء. عالمي التصويري سلسلة من التراكيب المرتجلة والأصداء، مما يعزز موسيقاه الداخلية وشاعريته الصامتة.».
الإيقاع، إذن، نسغ يستمد التشكيل من جوهره صيغه ومعانيه. إنه سلسلة لا متناهية من التراكيب والاختراقات والإنزياحات التي تجعل الثابت دائما متحولا، كما أن الإيقاع يكشف لنا عن سحر التجربة، باعتبارها فعلا فرديا ومنجزا استوفى شروط إعداده وممارسته.».
أعمال نجاة بمثابة تداعيات حرة تجعل النص البصري محملا بالمجازات، والاستعارات، والكنايات الجديدة النابعة من الذات والمنصبة فيها، مع الرغبة العارمة في البحث عن الكشف/ المغاير و الاكتشاف/المتاهات، وارتياد عالم الحدس الذي ينقذنا تدريجيا من هيمنة الحس المادي، ويفتح لنا أبواب الفن المندمج مع حميمية الحياة المعاصرة. لا بد من التذكير بأن الحدس من منظور برغسون هو نوع من الشعور الذي يقودنا إلى تحليل العناصر المضمرة في العمل الفني… إنه، أيضا، فعالية روحية وقوة إدراكية تعبد الطريق نحو الكشف عن مواطن العمل الفني ومكنوناته.ألم يقل برغسون:» العلوم تؤمن وجودنا، بيد أن الفنون تربكنا.».
الفنانة نجاة، أنت نموذج فريد للغة إبداعية رصينة تراهن على شاعرية الفضاءات المستوحاة، وعلى النفاذ إلى جوهر التجربة الإنسانية في آنيتها وتزامنيتها. أخالك ترددين في قرارة نفسك:» أيها المصور ارسم، وكف عن الثرثرة».

عبد الله الشيخ*
*  (ناقد فني)     

Related posts

Top