نحو سودان جديد

تكاتفت مجموعة كبيرة من التحديات أمام عبدالله حمدوك رئيس الحكومة السودانية، وروّجَ البعض لفقدان الثقة تماما في تجاوزها، لكن الحكومة أثبتت أنها قادرة على التعامل معها بحسم، وتملك الوسائل التي تمكنها من إطفاء النيران التي أراد البعض أن يُشعلها من خلال النفخ في تظاهر بعض العاملين في هيئة العمليات بالمخابرات قبل أيام.
كشفت السلطة الانتقالية بشقيها، مجلس السيادة والحكومة، أن هناك انسجاما بين مكوناتها العسكرية والمدنية، ولن تتهاون مع عمليات التمرد السياسي أو الأمني أو حتى الوظيفي، وأنها عازمة على العبور بهذه المرحلة والتقدم على مستوى السلام، ولن يتم النكوص عن التعهدات السابقة، فضلا عن الوقوف في مواجهة من يفكرون في تغيير المعادلة الراهنة وتوازناتها الدقيقة أو من يخططون لانقلابات مسلحة مستقبلا.
كانت حكومة حمدوك في أشد الحاجة للتأكيد على أن انخراطها في حل مشكلات ما يعرف بالهامش والأطراف لن يثنيها عن التصدي لمساعي خلط الأوراق في المركز، وحرفها عن مسار تسوية الأزمات. وتسير بالتوازي في معالجة حزمة كبيرة من القضايا المتفاقمة. الأمر الذي تلقفته بإيجابية دوائر سياسية وشعبية بدأت تتململ من الركود الذي يعتري ملفات عديدة.
أوصل التعامل الحازم مع تمرد هيئة العمليات رسالة قوية لأتباع نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير، بأن طريق توظيف الأزمات مسدود. وأدى إلى زيادة انتباه الحكومة لخطورة الخلايا النائمة المؤتمرة بأوامر قيادات الحركة الإسلامية في الداخل والخارج. والأهم أنه يسرّع من عملية تقويض نفوذ روافدها في الجيش والشرطة والإعلام وفي مؤسسات متباينة. بات كل تحرك تقوم به السلطة الانتقالية في اتجاه تقليص روافد النظام السابق يلقى ترحيبا كبيرا من المواطنين، ويشجعها على عدم التوقف عن استكمال المهمة قبل أن يتمكن هؤلاء من تثبيت حضورهم في الشارع بما يضاعف من صعوبة اقتلاعهم، لأنهم يعملون على إيجاد أمر واقع يجبر الحكومة على القبول به، ويقود في النهاية إلى عودتهم إلى السلطة برداء ناعم ديمقراطي أو خشن انقلابي جديد.
المشكلة أن هناك علاقة طردية بين التصعيد ضد الفلول والالتفاف حول الحكومة. كلما خَطَتْ الحكومة خطوة ضد الفريق الأول تزداد شعبيتها وتحصد المزيد من الثقة وتتعزز علاقتها بالجسم العسكري في السلطة وتجني الكثير من المكاسب المعنوية وتثبت أنها قناة طبيعية للثورة السودانية، وتتوقف حملات التشكيك في بعض توجهاتها.
يأتي الخوف دائما من أن تصبح مواجهة المحسوبين على البشير لعبة أو قشة تتعلق بها السلطة كلما ضاقت بها السبل وعجزت عن الوفاء بالاستحقاقات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، تلجأ إليها لتساعدها على الهروب من مهمة تسريع تحركات جلب الأمن والاستقرار والوصول إلى تحقيق حلم السلام الشامل، وبناء سودان خال من أصحاب الميول العقائدية الذين مكثوا في الحكم طوال ثلاثة عقود.
تجد دوائر عسكرية في السلطة الانتقالية ضالتها في الخروج من بعض المآزق بتضخيم دور الحركة الإسلامية، وفتح ملفها بالتدريج وحسب الضرورة، وتأخير الدخول في عملية محاسبة واسعة مع أجنحتها المتباينة كي تتمكن هذه الدوائر من الحفاظ على نفوذها في الحكم، وربما إطالة أمد الفترة الانتقالية، وغض الطرف عن نقل القيادة في مجلس السيادة من الشق العسكري إلى المدني بعد نحو عام وفقا للوثيقة الدستورية.
يبني أصحاب هذا الاتجاه حساباتهم المعلنة على عدم قدرة الدولة على تحمل تجفيف المنابع دفعة واحدة لتجنب حدوث ارتجاج في الهياكل الصلبة، وبالتالي تطول المواجهة، لأن كل خطوة تبعد الحكومة عن ضبط النظام العام توحي للفلول بالأمل في إمكانية العودة إلى السلطة، وتشجعهم على الصمود في مواجهة تداعيات ما تم اتخاذه من خطوات حازمة.
منح هذا التفكير أيضا أعوان نظام البشير فرصة للخروج على قواعد الانضباط التي أعلنت بعض القيادات الحزبية القريبة منه عن التمسك بها تفاديا لتصاعد حدة الضربات، والحفاظ على الكيانات الخفية التابعة للحركة الإسلامية، انتظارا لمرحلة يتم الفصل فيها بطريقة ديمقراطية، والدخول في انتخابات على المستويات الرئاسية والبرلمانية والولاياتية.
ويرون أنها الوسيلة التي تثبت أن وجودهم عميق ومتجذر، لم تفلح معه كل عمليات الاقتلاع التدريجي. حيث ترتاح قيادات الأحزاب الموالية للبشير لفكرة الاحتكام إلى اللعبة الديمقراطية، ولديها ثقة في الفوز، وهو ارتياح ناجم عن عدم قدرة المنافسين على ترتيب أوراقهم السياسية حتى الآن.
تفضي هذه المعطيات إلى أن ورقة فلول البشير لا تخلو من ألاعيب سياسية لدى فريقين. أحدهما كامن في السلطة. والآخر ظاهر في المعارضة. بالطبع ليس هناك اتفاق مباشر بينهما. لكن ثمة من يستفيد من الزخم الذي يتقاسم الأدوار، ويحقق من ورائه مصالح سياسية متشابكة يسعى لعدم التفريط فيها تماما لتظل واجهة لتبرير بعض التصرفات العنيفة، وتفسير البطء في تحقيق إنجازات ملموسة.
أشارت الوثبة العالية التي قامت بها الحكومة لوأد تمرد المخابرات إلى أنها تستطيع التعامل مع المفاجآت التي تأتي من أي جهة كانت في الدولة. كما منحت رئيسها قوة إضافية في المفاوضات الجارية مع الجبهة الثورية، الممثلة للحركات المسلحة في الأقاليم المختلفة، لأنها أوصلت إليهم إشارة واضحة بأن التمرد أو الانقلاب أصبحا ممنوعين وتقف أمامهما مصدات قوية. فبعد أن كانت هذه التصرفات عملا شائعا وأضفت سياسات البشير مبررات عليها، أضحى من الصعب القبول بها في المرحلة الحالية.
بعثت الوثبة أيضا برسالة لبعض القوى التي تنتهج طريقة مراوغة لتحقيق مكاسب لأحزابها وتجمعاتها السياسية. حيث درج هؤلاء على التكسير في عظام الحكومة وتكرار الحديث عما تحمله من محاصصة والدفع نحو استبدالها بذريعة عجزها عن الفصل في غالبية الملفات، وأدت إجراءاتها المتناثرة إلى نتائج قاتمة.
وهناك من طالبوا بإجراء انتخابات مبكرة لحسم القضايا المعلقة، ولم ينصرفوا عن تكرار الحديث عن الفجوات السياسية بين الجسم العسكري والمدني في السلطة.
أكدت الحكومة أنها غير عابئة بهذه النوعية من التخرصات، وأنها تقيم وزنا للتركة الثقيلة التي تديرها والتي لا تسمح لها بالالتفات يمينا أو يسارا، وماضية في التعامل مع الأزمات وحلها بالأدوات التي تتناسب مع التعقيدات التي تمر بها البلاد، وليس بالطريقة التي تتمناها بعض القوى السياسية، فالدعم المعنوي الكبير الذي حصل عليه حمدوك يكفيه لمواصلة الصمود.
قد يكون هناك إحباط ناتج عن عدم التقدم على مستوى قضايا حيوية، لكنه لم يصل لدرجة التشكيك في نوايا الرجل، الذي يمضي وفقا للخطة المرسومة في البحث عن سودان يقوم على أساس المواطنة ويستوعب الجميع. وهو ما جعله غير قلق من المشكلات التي تتفجر أو منزعج من الأحداث الدموية التي تظهر من وقت لآخر، لأنه في النهاية مدعوم من شريحة كبيرة من المواطنين، ولا تزال قوى إقليمية ودولية تعول على نجاحه في مهمته الشاقة.

بقلم: محمد أبو الفضل

 كاتب مصري

الوسوم , ,

Related posts

Top