نصوص مغربية وعالمية من أدب الوباء

واكب الإبداع الأدبي في مختلف مراحله الزمنية، المحطات الكبرى التي تمر بها البشرية، ومن بين هذه المحطات بطبيعة الحال، الوباء أو الجائحة، وما ينتج عنها من جوانب سلبية وإيجابية كذلك. في هذه النصوص نجد الذات والمجتمع في صراع مع عدو غير مرئي، وتلك هي سر قوته وطغيانه. من خلال حلقات هذه السلسلة إذن، نقف على عينة من النصوص الإبداعية المغربية والعالمية ومدى تفاعلها مع الوباء، حاضرا وماضيا على حد سواء.

< إعداد: عبد العالي بركات

ها هي كورونا تخطفك منا كما خطفت العديد من الأحبة

الحلقة 21

< بقلم: ياسين عدنان *

أعدتُ التحديق في الشاطئ أمامي فرأيت فيما يرى الحالم الرّمل يحتجّ. لماذا تركتَنِي خارج الإطار؟
فعلا، كانت الألوان الباهتة منعكسة على الرمل الذي تدغدغه غلالة الماء.. الماء رائق المزاج الذي يبقى بعد أن تنسحب المُويجات.
أطبقت سحب غادرة على عمق السماء الشّفقي المحيط بالمسرب الذي انسحبت منه الشمس. فصار البحر أخضر بالتّدريج. الرمادي يعانق الأخضر، والألوان تبهتُ، والإحساس بالكآبة يتسرّب إلى الوجدان. عليّ أن أغادر الآن. أتمنّى دائما لو اندلعت الأضواء صاخبة في كل مكان بُعيْد انسحاب الشمس. لا أحتمل لحظة اكتمال مغيب الشمس ونهاية مهرجان الألوان. ثم إن الجوّ صار أبرد، بعدما تحركت ريحٌ لاسعة. عليَّ أن أغلق اللابتوب وانسحب من الشرفة.
حتى الشاطئ سيغلق أبوابه على ما يبدو. شرطي يتجوَّل فوق درّاجة “كواد” نارية بأربع عجلات. كان يطلق صافرته في كل الاتجاهات. أوقف مقابلة في كرة القدم كانت تجري أمام شرفتي. حتى الظلام الذي بدأ يُرخي سدوله لم يوقف الماتش المحتدم حتى جاء الشرطي. على الجميع أن يصعد إلى الكورنيش، فشاطئ أكادير ممنوع ليلا.. حتى على العشاق.
في الصباح، كان الضباب كثيفا. لكنني قررت السّباحة مع ذلك. على الأقل الجو هنا دافئ رغم الضباب المتكاثف المُطبِق على شاطئ سانتا كروز المغربية. البرتغاليون كانوا يسمّون أكادير سانتا كروز.
تذكرتُ سانتا كروز الأمريكية. هناك في كاليفورنيا، حيث يتعارك عجوزان ثريان على إدارة الويلات المتحدة في زمن الوباء، كنت مدعوًا قبل بضع سنوات من طرف رابطة الفنانين الأمريكيين إلى سان
فرانسيسكو حيث قضيتُ شهرًا كاملا في إقامة أدبية حين قرر أصدقائي في الإقامة من الأمريكيين تزجية يوم كامل في سانتا كروز. خطّطنا ورتّبنا كل شيء، لكن في اليوم الموعود تحالف ضدّنا البرد القارس والضباب. هناك، قفزوا إلى الماء جميعًا، إلّاي.
– لستُ مجنونًا لأسبح في هذا القرّ، أجبتهم بصرامة
راجعتني فنانة تشكيلية أمريكية بلهجة أكثر تحدّيًا:
– لكنني لا أتصوّرك مجنونًا لكي تعود إلى إفريقيا دون أن تجرِّب السّباحة مع الدّلافين وكلاب البحر في المحيط الهادي. سيكون مؤسفًا أن تقف على رمل هذا الشاطئ المبهر ولا تغطس في مائه.
كانت الدّلافين تتقافز أمامنا، وكلاب البحر أيضا. ووجدت أنّ نانسي – كان اسمها نانسي – على حقّ. لا يمكنني أن أقف على شاطئ سانتا كروز ولا أسبح مع دلافينه. ثم ما بال الجميع يسبحون؟ ما معنى أن أكونَ المتخلِّفَ الوحيد عن عبثهم السَّعيد وسط أمواج الهادي العاتية؟ عدتُ إلى السيارة. خلعت معطفي وقبعتي، ثم ملابسي تباعًا. ارتديت الشّورت وأسرعتُ باتجاههم. قفزت إلى الماء لأودِعَ خوفي ورُهابي أوّل موجة. كانت أسناني تصطكّ من البرد. لكنني سبحت في سانتا كروز هناك على المحيط الهادي. حسنًا، لقد جرّبنا الأسوأ. فما المانع من أن أخترق الضباب الكثيف لهذه الصبيحة النوفمبرية الباردة وألقي بجسدي في بحر سانتا كروز المغربية، هنا على الساحل الأطلسي؟
اسبَحْ بأمانٍ إذن، وتحرّك في عاصمة سوس
بأمان. فهذه مدينتك. أصولي من الصويرة
آسفي مسقط رأسي ومراكش مسقط القلب. لكن أكادير مدينتي أيضًا. فجدّتي لوالدي أمازيغية طيّبة من هنا. سوسية من إداوتانان.
كانت جدّة شاعرة، لا تكفُّ عن ترديد الشعر والتغنِّي بكلام الرّوايس. كأني ورثت الشعر عنها. فكيف لا أحسُّ بالأمان وأنا في أرض الجدّة.
حينما حلّ وقت العودة، أحسست نفسي كمن سيغادر حلمًا ليعود إلى الكابوس. فتحتُ هاتفي وبدأت أطّلع على أخبار كورونا. الأرقام في تصاعُد مخيف. تجاوزنا عتبة الخمسة آلاف مصاب يوميًّا، وتجاوز عدد الوفيات اليومية السِّتين. تفكيرُ المسؤولين في العودة إلى الحجر صار مُلحًّا. أمّا الضّحايا من المعارف والأصحاب ففي ازدياد: الإعلامي الدَّمِث إدريس أوهاب، المبدع الأنيق محمد المليحي، وأخيرًا الأديب الصحافي المغترب
حسن السوس. يا للهول.
تذكرت لقائي الأخير مع حسن السوسي في باريس في بداية مارس المنصرم. في الخامس من مارس فيما أذكر. كانت فرنسا قد بدأت تتفاعل مع كورونا بفزع وارتباك. حللتُ ضيفًا على إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية أقدّم الطبعة الفرنسية لروايتي هوت ماروك الصادرة في بداية مارس. فاجأني أنني مددتُ يدي لمصافحة الصحافي الفرنسي فاعتذر. أزعجني الأمر. حينما التقيت حسن السوسي في إحدى مقاهي الحي اللاتيني استقبلني بالأحضان، شكوت له الصحافي الفرنسي وبدأنا نتحدث عن مُبالغات الفرنسيين. لكن الأمر لم يكن مبالغة أيها العزيز. وها هي كورونا تخطفك منّا كما خطفت العديد من الأحبّة.

* كاتب مغربي

Related posts

Top