” نضارة العنف ومتعة الغواية ” في السيرة الروائية “الذاكرة الموشومة” لعبد الكبير الخطيبي

يعتبر هذا النص السير- روائي “الذاكرة الموشومة” للكاتب المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، جزءا من مشروع متكامل. أخذ على عاتقه عشق الصيرورة. فهو يبدأ بالبحث عن ذبذبات موسيقاه، وعن نغمته المتفردة وسط فوضى الكتابة. ليستمر بدون هوادة في خلخلة موازين قارئ هذا النص المجسد لفعل اغتصابه بوعي شقي. إذ تأتي الكتابة مغايرة لما هو متوقع، كاسرة جدار وهم الثقافة الغربية، معيدة النظر في بياضات الموروث، معلنة بازدواجية أنظمتها الثلاثية الأضلاع: الدارجة المغربية، فالعربية، ثم الفرنسية. منغمسة فيتجريبيتها حد الانبهار لتحطيم الأجناس بحس وفكر تاريخيين.

جسدي من كلمات:

يضم الجزء الأول سبع مقاطع، موقعا فيها مسارات الذات الكاتبة؛ من طفولة مزدوجة، فمراهقة تعيسة، ثم الانعتاق. لتنساب الذكرى منذ الولادة، الى السنة الرابعة حول الأم بمدينة الجديدة.
وفي سن السابعة، سيصدم بوفاة الأب، وسيليه الأخ الأصغر، ثم ستليه الأم ليرتمي في أحضان خالته بمدينة الصويرة ” المدينة برسم بيع”، حيث سيكتشف لغز النساء.
وفي سن التاسعة سيتعرف على المبغى بغمزة، التي كانت بمدى أحلامه.
وفي سن الثانية عشرة سيدرك الفعل المشطور، بعد أن وعى لغته المزدوجة، وذاكرته الموشومة، من خلال العائلة، فالكتاب-وإيلاج النص المقدس-ثم المدرسة الداخلية بمدينة مراكش، حيث أطياف المراهقة وبداية القلق والتعاسة، وكذا الانبهار بالثقافة الفرنسية والادمان على القراءة. فولد من جديد على “روح الأشياء، في جو من الغرابة” وعلى هاجس الكتابة. بدون أن ينسى غواية الجسد المنفلت.
وفي الخامسة عشرة، سيأخذ العنف في تركيبة خاصة، وتصير الكتابة فعل اغتصاب، ما دام “مناضلا طبقيا وسط بلاغة قبيلة الكلمات”، وأخذ حرفه يشع مجسدا انشطاره الكامن في روح الأشياء والذات والذاكرة، محبا للوحدة، مدمنا على فضاءات جوانية، خاصة بعد خيبة أمله مع “الحمامة الوديعة”، مترقبا انجراف التاريخ-مورقه- إنه “فرحزين” بالثانوي بالدار البيضاء كآخر محطة من محطاته، وهما يعيشان على إيقاع الانعتاق الجماعي بعودة الملك محمد الخامس، مخمورا بالشعر وبالكلمة المعتقة الملتزمة ك”صرخة البيضاء”ص93.

تركيبة العنف:

يضم الجزء الثاني خمسة تقاسيم، وهي عبارة عن رحيق ترحاله، وعطر تجاربه، الأكثر تنوعا وتناقضا. وأول محطاته باريس؛ حيث الدخول في أبجدية الرغبة والانفلات من سلطة الأب ومن صمت الأم. ومن أي سلطة.
في الأول سيفتتن بثقافة الغرب لفك رموزه وطرقه في استبداد الشعوب. وسيختار الصمت الحذر ليمارس غوايته في الثاني بـ”لطف همجية اللغة الشعرية والمعرفة الماجنة”، فيأخذ في مجابهة الحلقات الشعرية ذات الثقافة الجوفاء بباريس. ليجد ما كان يصبو اليه من نضارة العنف مع “بوريس فيان “(المتذوق الحياة والكتابة والموت في آن). وسيخوض في نقاش حاد ورهيب بدار المغرب بباريس حول الحرب والموت وقضية الهوية.
وما أن انفرجت غيوم الاستعمار، سيقفز من فضاء الى آخر أكثر اتساعا متأبطا ذاكرته الراحلة الى عوالم أخرى؛ كالسينما والمسرح والمعارض والموسيقى. وكذا من نزوات الجسد الموشوم، والحنين الى العش الخفي حيث (فقه الصمت، والاعتداء على الجسد المخل) ص142.
وسيعود إلى باريس مرات، ليصير نبيا بائسا، مستعدا للعبة الثقافة، والانبهار بالموسيقى حد الجنون مع الفتاة الذئبية وحياة الانفلات. ليعود الى أرض الوطن، بعد أن قضى ستة أعوام من التيه المنظم بين لندن أو حديقة المنفى و”مخلوقاتها الوجيهة”، وبين ستوكهولم واسبانيا “الدليلة” وبلدان أخرى. قصد مواجهة الغرب والدخول في حوار جوهري بين الهوية والغيرية (الغيرية امرأة، الغيرية المتوحشة غواية خفية) ص119.
وأمام الزمن المزدوج الدائري، الذي يتسم به الجزء الثاني، سيتم انتزاع سأمه بالذهاب الى الأبعد والأعمق؛ أي خلخلة نقط التقاطع بين التطابق والمغايرة بغواية، عاشقا للصيرورة، ممارسا فعل اغتصابه على واجهتين:
>الأولى: تتجلى في ثورته على الغرب (عندما أرقص أمامك أيها الغرب، دون أن أنفصل عن شعبي، أعلم أن هذه الرقصة رغبة قاتلة…إن الغرب يعتقد في قوته..قال الغرب: الكون هو سكننا…قولوا: إننا نحن قادة أنفسنا..) ص133.
> الثانية: انتفاضته على الموروث السديمي الملمح، الذي يجسده، في نهاية النص، الحوار الدائر بين حساسيتين أو نفسين:

النفس الأول:

وما دامت الهوية مزدوجة، والذاكرة موشومة، فهناك عقدة تاريخية، وهناك وشم كتابة. يستوجب لفك ألغازه نوعا من المقروئية والإعجاب والاشتهاء، مسلحا بوعي شقي، وهو يفك أنظمة دلالية ثلاث: الخط والوشم والعطر.

النفس الثاني:

يطرز ارتجافه وانفعاله لسماع نفس ظله وهو ينبش تاريخ الفكر الإنساني من خلال عقدته التاريخية. ويلج النص الخالص معتبرا تفكيره دلالة على خفة معرفته المتشظية، الموسومة بالعنف المنثور بين ثنايا كلماته المتصارعة، وكذا بين نبضات الأفعال وخفقات الأسماء. متراقصا بين حافة الفراغ واللامعنى. وبين الهوى والبرهنة.

“هكذا أستطيع التنفس”:

وما دام الوشم عنصرا فعالا في عملية التذكر، وما دام الخط ضروريا لاكتناه النص المقدس، وما دام العطر موحيا للغز-الأقوى من السحر-، فالكتابة ترجمة لهذا الانفصام، وصدى لهذه المسافة بينه وبين هويته. ومن ثم تصبح القراءة متعة نشوانة في اغتصابها لأفق انتظار قارئ هذا النص العنيف، أثناء تفكيك أطياف آياته، وهو يوخز إبره في كيانه كدلالة على صراعه الداخلي والخارجي.
ليستمر فعل اغتصابه المتنامي قصد الوصول الى نغمته الجدلية بين تقاسيم الهوية والغيرية (الغيرية شأن الهوية، إيقاع ورقصة مؤلمة) ص148. عازفا على إيقاعات ألم الاغتراب. معلنا: “هكذا أستطيع التنفس”.

> عبد الرجيم بيضون

Related posts

Top