نعم للرقمنة.. لكن ضمن إصلاحات جوهرية وشمولية

في النقاشات التي تجري في أوساط مختلفة ومنتديات متعددة حول ما بعد زمن الجائحة، أحيانا يدفع البعض بيقينيات يراها الحل الوحيد لكل معضلاتنا المجتمعية والقطاعية، ويوزع البعض أفكارا وتنبؤات يرى أنها واقعة لا محالة ولا يقربها الباطل أو حتى بعض التنسيب في جديتها.
ولهذا يبقى استحضار السياق المجتمعي وواقع شعبنا ضروريا في مثل هذه المناقشات الكبرى، علاوة على أهمية المقاربة الشمولية لمعالجة قضايا بناء الدول وحل مشكلات الناس.
مثال يحضر في البال للدلالة على بعض أجواء هذه المناقشات، يتعلق بالرقمنة، وكيف يرى البعض أنها المفتاح السحري لحل كل المشاكل هنا والآن.
من المؤكد أن التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصالات وابتكارات الذكاء الاصطناعي تفرض استثمارها والاستفادة منها لتحسين شروط عيش الناس والارتقاء بأوضاعهم، ولكن ذلك لن يتحقق بنفس المستوى في كل الدول والمجتمعات، وأيضا في ذات المدى الزمني أو بنفس الإيقاع.
في بلادنا مثلا، هناك الفقر والأمية ينتصبان كتحديين رئيسيين أمام مسار تطوير الرقمنة، ومن دون القضاء عليهما أو الحد، على الأقل، من تفشيهما وسط فئات واسعة من شعبنا، وبالتالي من دون تحسين مستويات الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ومن دون تنفيذ إصلاحات حقيقية وجدية في قطاعات مختلفة، سيكون صعبا إنجاح طريق الرقمنة عندنا.
الأمر ليس حلا سحريا نقول له كن فيكون، أو أنه ينجح في الواقع بمجرد تمنيه أو التنظير له، ولكنه يتعلق برقمنة قطاعات ومعاملات مختلفة، وتمكين الناس من الحصول على خدمات من الإدارات والمرافق المتنوعة من دون الاضطرار إلى التنقل لديها أصلا أو حمل عديد مستندات ورقية والالتزام بالحضور أمام موظفيها، وهذا يتطلب، بداهة، إعداد البيئة الاجتماعية والمادية والثقافية المحفزة على ذلك، والتي تتيح تقبل الناس لهذا التحول الجوهري الكبير.
صحيح، هذه التحديات الواقعية لا يجب أن تعني عدم التطلع لإنجاح طريق الرقمنة أو الاستعداد لذلك والكلام عنه وصياغة المخططات والبرامج والقوانين، ولكن المشكلة هي ترويج الأوهام والقفز على السياقات كلها، وإيهام الناس أن “الرقمنة” كلمة سحرية سوف تحل كل مشاكلنا في الإدارة والقضاء والتعليم والإعلام والقراءة….
إن تجربة التعليم عن بعد مثلا التي أجبرتنا عليها ظروف الجائحة، أبرزت فعلا بعض المؤشرات الإيجابية، لكن ليس إلى درجة الجزم القاطع بأن الرقمنة هنا قابلة للتحقق في الغد القريب، وفي كامل البلاد، وأننا انتهينا من التعليم الحضوري ولم نعد في حاجة إليه بيداغوجيا ومعرفيا وإجرائيا…
وهناك كذلك تجربة المحاكمات عن بعد، وهي بدورها لا زالت تثير كثير أسئلة قانونية وحقوقية وعملية في بلادنا وفي دول أخرى أكثر تقدما منا، تماما كما أن المرفق الإداري العمومي من جهته لا زال، بشكل عام، يعاني من اختلالات يجب أخذها بعين الاعتبار والانكباب على إصلاحات حقيقية لها قبل المرور لمرحلة جديدة.
الشيء ذاته بالنسبة لإشعاع القراءة وسط شعبنا وشبابنا، وبالنسبة لتطوير إعلام وطني مهني يمتلك المصداقية والمتانة، هنا أيضا التلويح بالرقمنة بكل هذا الاستسهال والتسرع ليس واقعيا، أو اعتبار ما يصلح في بلد أوروبي أو أمريكي يمكن نسخه حرفيا وجعله صالحا في بلادنا بشكل فوري.
في الخلاصة، بالفعل يطرح على بلادنا اليوم، من ضمن دروس كورونا، ضرورة تطوير الرقمنة في منظومات الإدارة والاقتصاد والقضاء والإعلام والتعليم، وفي كل مناحي الحياة، وأهمية استثمار ذلك لتسهيل تقديم مختلف الخدمات للمواطنات والمواطنين، ولكن ذلك لن يتم من دون إعداد البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحفزة على ذلك، ولن يتيسر ذلك أيضا من دون القضاء على الأمية ورفع مستوى الوعي العام لدى الناس، ومن دون تحسين أوضاعهم المادية والاجتماعية وظروف عيشهم، أي أن نجاح الرقمنة يتصل، جدليا، بمنظومة إصلاحات اقتصادية واجتماعية جوهرية لا بد من إنجازها، ومن ثم جعل التغيير شموليا والتقائيا، وضمن نسقية متكاملة والتقائية.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top