هل انتهى عصر “ما يطلبه المستمعون”!؟

منذ اختراع نواته الأولى قبل قرن ونصف على يد عالم الفيزياء الإيطالي غوليلو ماركوني ثم تحويله من آلة بدائية وبسيطة لبث الرسائل الصوتية بين شخصين أو مجموعة من الأشخاص، كان الراديو وما يزال ذلك الكائن “الحي” الأنيس القابع على منضدتنا ومكتبنا وعلى الرف في مطبخنا، أو بين أذوات ورشتنا الحرفية، أو مندسا كالطائر المغرد في قفص جيبنا، أو ساهرا قرب وسادتنا يؤنسنا في وحدتنا، ويواسينا في أسقامنا، ويحملنا في السهاد على جناح الغفوة إلى أرخبيلات الأحلام اللذيذة.
ومثله مثل عديد من الاختراعات الآلية التي انحرفت عن وظيفتها المبدئية الأساسية التي اخترعها العلماء الأوائل من أجل القيام بدور من الأدوار الحربية أو الاقتصادية أو الهندسية أو التواصلية أو النفعية بصفة عامة، فإن الراديو أيضا قد تطورت وظائفه وتشعبت من مجرد آلة للتراسل إلى سلاح إعلامي وبوق لنشر الأخبار وترويج المعلومات قصد ترويض الرأي العام للانخراط في المشروع السياسي والإيديولوجي لأي دولة من الدول، ولصالح أي معسكر من المعسكرات، بهدف فرض هيمنته وتكريس أهدافه الإستراتيجية والإيديولوجية والسياسية والاقتصادية.. إلخ.
ومع التطور التكنولوجي الذي عرفته أوروبا منذ مطلع القرن العشرين وتنافس الشركات العملاقة للهيمنة على السوق الاستهلاكية الميدياتية عن طريق تطوير جهاز الراديو على مستوى معدات تصميمه الإلكترونية أو انتشاره عبر توسيع خارطة التقاطه الأثيري من موجات طويلة إلى متوسطة وقصيرة، فقد تعددت وظائفه وصار أيضا جهازا للتثقيف والترفيه وتقديم الخدمات الدعائية والاجتماعية العامة.
برامج إذاعية ترفيهية وتثقيفية عديدة كبرنا معها وبصمت ذاكرتنا منذ الطفولة، وأسهمت كثيرا في توثيق أواصر التعلق بالوطن ورموزه، وتدعيم وشائج القربى بين مختلف شرائح المجتمع المغربي.. برامج كان من وراء مكرفوناتها إذاعيات وإذاعيون متألقون كانت تفيض أصواتهم دفئا وشجى أسهمت كثيرا في شحذ خيالنا الجماعي لكي ننسج حول قاماتهم الإعلامية صورا طافحة بالمحبة والتقدير ولبرامجهم بفائض من الإعجاب والوفاء.
لعل أشهر هذه البرامج منذ تأسيس الإذاعة الوطنية بالمغرب سنة 1950 إلى اليوم البرنامج الترفيهي “ما يطلبه المستمعون” و”رغبات المستمعين” وغيرها من صنو هذه البرامج التي كانت تبثها الإذاعة المركزية وبعض الإذاعات الجهوية.
وإذا كانت غاية هذه البرامج هي فتح فسحة استراحة للتخفف من دسامة البرامج الإخبارية والسياسية والاقتصادية والحوارية، فإن أبعاد أهميتها السوسيوثقافية والفنية كانت ذات تأثير عميق في نفوسنا لا يقل، في رأيي، أهمية في خارطة البرامج الأخرى على مستوى دورها في تربية الذوق الفني والطربي العام من جهة، ومن جهة أخرى إنعاش العلاقات الاجتماعية والحميمية بين الأفراد والأهالي في المدن كما في القرى، عبر تبادل إهداءات لروائع الأغاني المغربية والعربية تحمل قصائدها وألحانها وأصواتها الشجية عديدا من رسائل الحب والمودة والوئام الاجتماعي…
فلاشك أن هذه البرامج كانت لها نكهتها الروحية والمعنوية الخاصة، وبهجة دهشتها العارمة التي لا تختلف عن “دهشة” الشهرة الأولى حين يلفي المستمع أو المستمعة احتفاء باسمه وبلقبه واردا على لسان المذيع، وأن اسم زوجته وأولاده أو خطيبته وقائمة بأسماء أقربائه وأصدقائه قد حظيت هي أيضا بهذا الاحتفاء الأثيري وبقدر غير قليل من بصيص الشهرة الإذاعية.
لم تقف أهمية هذه البرامج فقط عند تنويع جسور ثقافة الإهداءات كباقات الورد وبطاقات الكاربوستال والأشياء الرمزية والنفيسة إلى الإهداءات الإذاعية، بل تعدى ذلك إلى تأكيد دورها في إغناء ذاكرتنا الطربية بحيث لا يخفى على أحد دورها في التعريف بمعلومات عن عناوين الأغاني وأسماء ملحنيها وكتاب كلماتها ومطرباتها ومطربيها وتاريخ تسجيلها في استوديوهات الإذاعة المركزية بالرباط أو الجهوية في الدار البيضاء وفاس وتطوان.
ماذا تبقى إذن من كل ذلك الأمس القريب للزمن الجميل من برامج إذاعاتنا الوطنية مثل برامج “ما يطلبه المستمعون”، و”رغبات المستمعين”، والبرنامج الأسري الشهير “السيدة ليلى”، والبرنامج الحواري “ندوة المستمعين” الذي كان يقدمه محمد السباعي، وبرنامج “موسيقى ورياضة” الذي كان يقدمه المرحوم نورالدين كديرة.. إلخ؟ ماذا تبقى من كل هذه الذاكرة الإعلامية بعد انتشار الإنترنت وإطلاق منصة “يوتيوب” واختراع شريحة الذاكرةcarte mémoire والملفات الصوتية MP3 وغيرها.
لقد أضحى “يوتيوب” ثاني موقع تواصل اجتماعي بعد فيسبوك في تصنيف “أليسكا” المختص في ترتيب المواقع الإلكترونية على الصعيد العالمي.
ولقد أحدث إطلاق منصة “يوتيوب” منذ يوم الاثنين 14 فبراير 2005 ثورة إعلامية غير مسبوقة، حيث بات بإمكان أي شخص إطلاق قناته الخاصة لبث أفكاره وآرائه، أو لتشاطر فيديوهات الأغاني والمعزوفات الموسيقية من كل الأطياف التراثية والكلاسيكية والشعبية والعصرية، ومن كل الروافد الحضارية الشرقية والغربية.. هذا فضلا عما قدمه “يوتيوب” من خدمة هائلة لتحميل تسجيلات الأغاني في نسخها التلفزيونية القديمة أو المعدلة بتوضيب وإخراج فني جديد قد يبادر به أي مشترك في حساب يوتيوب.
وإلى جانب هذا، تم إنشاء مواقع إلكترونية غنائية موضوعاتية هي عبارة عن خزانات رقمية تحتوي على المئات من الأغاني والمعزوفات الموسيقية من صيغة MP3 جاهزة للتشغيل ببرنامج الميلتيميديا، ومتوفرة للراغبين في تحميلها وأرشفتها في الحوامل الرقمية الخاصة كالأقراص المدمجة وUniversal Serial Bus المعروفة اختصارا بـ USB وشرائح الذاكرة CARTE MEMOIRE أو في الأقراص الصلبة Hard Disk لحواسيبهم المحملة أو لوحاتهم الإلكترونية.
فمن كان سيصدق، قبل عشرين سنة، أنه سيكون بمقدور أي شخص يمتلك سندا من الأسانيد الإلكترونية وربطا بالإنترنت، الانتشاء والاستمتاع بوصلة من أغانيه المفضلة حيثما كانت ظروفه المحيطة الخاصة مواتية لذلك؟
فلم يعد اليوم هذا المواطن في حاجة، كما كان قبل عشرات السنين، إلى بعث رسالته في ظرف بريدي إلى معدي برامج الإهداءات الطربية ليتوسل من خلالها إليهم إدراج أغنيته المفضلة على الأثير مرفوقة برسالة سلامات حارة وشكر جزيل وبقائمة بأسماء أقربائه وأصدقائه… أغنية تكون لها تلك الشحنة الهائلة من ذبيب التذكارات والرسائل العاطفية والتحايا الحارة.
لكن في المقابل، وبعد أن غمرنا طوفان الإنترنت والثورة التكنولوجية والرقمية التي أسعفتنا كثيرا في تجاوز عديد من الإكراهات الواقعية، ومكنتنا من قطف ثمار المعرفة من جنة العوالم الافتراضية، ومنحتنا بأقل كلفة مالية وأقل جهد أشهر وأعظم الإبداعات الموسيقية والطربية التي كنا إلى الأمس القريب نشتاق إلى سماعها عبر جهاز الراديو… أقول في المقابل ألم تقتل هذه الثورة التكنولوجية والتطبيقات الرقمية وانتشار الهواتف الذكية في نفوسنا شهية التشويق والانتظار؟ ألم تطفئ فينا جذوة الرغبة في البحث عن أي شيء يحقق لنا متعة شعور ما، بعد أن أضحت عديد من كنوز المعرفة وأشكال الترفيه جاهزة على شاشة الإندرويد أو بمجرد نقرة زر على الحاسوب؟ ألم يقتل فينا هذا التطور في الوسائط التكنولوجية والأسانيد الرقمية لذة الإحساس بانسياب الزمن في نفوسنا بعد أن كنا بالأمس نترقب على مدى أسبوع كامل موعد بث أغنيتنا المفضلة في برنامج إذاعي قد تزدحم في بريده المئات من الطلبات والرغبات مثل برنامج “ما يطلبه المستمعون” أو”رغبات المستمعين”؟ أم أن هذه الثورة لها أيضا ثمنها الباهظ على منظومة قيمنا النفسية والاجتماعية والثقافية والزمكانية.. إلخ؟؟؟

> بقلم: عبده حقي

Related posts

Top