هيمنة المتفرج في العرض المسرحي التفاعلي

إن دراسة أي طريقة من طرق الاتصال والتلقي، لا بد أن تستند إلى تحليلات تفاعلية، ومن البديهي أن يقوم ذكاء الفاعل (المرسل) بتشغيل فاعلية المفعول به (المتلقي) من خلال الازدواج النفساني الناتج عن تشكيل وظائف المراقبة الداخلية لتفاعلية الفاعل، عن طريق تحرير طاقة فاعل ثاني أو نائب فاعل من نفس المفعول به الأول، ثم تتجه طاقة الفاعل ونائب الفاعل نحو مفعول به ثاني، لو استعضنا عن هذه المتوالية القواعدية لوجدنا أن كل فكر علمي يزدوج مع فكر تقريري وفكر تفاعلي يقيني وبين فكرواعٍ لواقعة الفكر، وبين الوعي واللاوعي، وبين قطبي هذا الازدواج يشتغل فكر هو في غاية التفاعلية، والقصد من الازدواج هو تفاعل الممثل مع  المشارك ومع الدور الذي يؤديه، لذا بدأ الاهتمام بدراسة فكرة التفاعل منذ أن أكد ( ويلبر لانج شرام  1948) أهمية شكل ومضمون التغذية الراجعة، والتي هي عنصر أساسي من عناصر العملية التفاعلية، وأن عملية الاتصال الجماهيري وتأثيراتها التي جاءت في أول إشارة لمصطلح التفاعلي وأكد ( شرام) على وجود محتوى ومسافة شكلية تركيبية في عملية التفاعل بين المرسل (الممثل) والمستقبل (الجمهور) بينما (كانط) يرى أن الشكل هو الذي يحدد الأثر التفاعلي ويستثير الانفعال الجمالي، والذي بفضله يتم توصيل نوعين من رجع الصدى، هما رسالة من المستقبل إلى المرسل ورسالة من المستقبل إلى ذاته، باعتبار أن المسرح وسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري. إن عملية التفاعل والتبادل مع الآخرين بقصديه تفاعلية من خلال (التغذية الراجعة، النتائج، رد الفعل لشيء ما ) يُراد الاتصال بالآخرين والتفاعل معهم، فتُستخدم الرموز الحركية والسمعية والبصرية واللمسية التي تُعَد أفضل وسلة لإيصال دلالة العرض الخارجية والكشف الضمني لتلك الرموز. فضلاً عن العملية التفاعلية، ينبغي أن يشترك فيها كل من العرض والمتلقي في فهم كل من السلوك، إذ يتفاعل الوعي، الحركة الجسدية والنفسية والوظيفية، من خلال الجوانب الاتية:
لغة الرموز وتفاعل الاشياء -تركيب واستعمال القواعد وعلاقتها بالرموز — طرائق استخدام لغة الرموز وتفعيلها لدى المتلقي.
إن وصف تفاعلية لغة العرض التي تعني أن النظام المشترك المكون من الرموز والإشارات التي يستخدمها (المُيَسر) باعتباره اللاعب الأساسي في المسرح التفاعلي والوسيط بين الممثلين والمتفرجين، فهو يشجع الجمهور ويحفزه على المشاركة في اللعبة، لتبادل وتفاعل المعاني والأفكار بين الممثل والمتلقي. فالممثل المُيَسر يتفاعل من خلال المشهد المسرحي بنقل المعاني على لسان الممثل بالكلمات الملفوظة (المنطوقة) التي تعتمد على فاعلية الصوت، وغير المنطوقة التي تعتمد على استخدام الكلمات المقروءة والمكتوبة والرموز والإشارات وحركات الجسم والإيماءات، وعلى المتلقي فك الرموز أو شفرات العرض، أي قراءة الأفكار، وهذه الأفكار ليست بدرجة واحده في التفاعل مع المعاني التي يراد إيصالها، فيتحول المتلقي في المسرح التفاعلي إلى مرسل للعلامة ومستقبل، أي (علاقة تبادلية ديالكتيكية)، وهذا لا يتم إلا باشتراكه الذهني تارة والمادي تارة أخرى في إنتاج دلالات العمل الفني الجديد. إن عملية (الاشتراك) من جهة تعطي فرصة لإنتاج رسائل مستمرة، تنتج بنحو مباشر من تبادل الارساليات بين المتلقي ومقدمي العمل المسرحي، تاركة العمل مفتوحا باتجاه تأسيس المعاني والقيم الجمالية الجديدة، ومن جهة أخرى كسر هذا (الاشتراك) استمرارية العمل المسرحي التقليدي، والمتمثلة في خطاب جاهز لا يسمح باختراقه أو الارتجال فيه، وهذا ما يؤكده (جاك دريدا) حين عد هذه العملية بمنزلة كسر لاستمرارية أو خطية الخطاب، فتعود ومن ثمَّ إلى قراءة مزدوجة، قراءة للجزء مدركاً في علاقته بالأصل، وقراءة أخرى له وقد خلط في كل جديد ومختلف. وبناء على هذه التصورات فبإمكان الباحث أن يتوصل إلى تقنية (الاشتراك الإرسالي) أو الإرسال المشترك بين المتلقي ومنتجو العمل الفني، وبتوظيف هذه الخاصية بتقنيتها في المسرح التفاعلي، يجد أنَّ (الاشتراك الإرسالي) نوعان:

الأول: اشتراك ( تفاعلي) فكري ونفسي.الثاني: اشتراك ( تفاعلي) مادي قصدي.
النوع الأول تكمن الصعوبة فيه، بأنَّ المتلقي لا يتكيف من اللحظة الأولى مع الرسائل التي يتلقاها ولا يتآلف معها، وبذلك يكون موقفه معقداً، الأمر الذي يخلق نوعاً من التعارض الثنائي بين المألوف واللامألوف. وإنَّ هذه العملية من شأنها أن تدفع بالمتلقي إلى تفجير فعل التفكير والوعي، في ضوء استقبال العلامات بصيغها البصرية والسمعية والحركية، وما تحمله من إحالات رمزية مباشرة وغير مباشرة ثم تفكيك شفراتها، والتفاعل معها، ومحاولة إيجاد العلاقات الرابطة بينها، يتيح الفرصة للفهم والتأويل والارتقاء إلى امتلاك الدلالة وإنتاج المعنى، وفي معرض حديث (مايكل كيربي) عن عملية إشراك المتلقي ذهنياً في تأسيس نظام العرض الدلالي، يقول: “إننا نربط أجزاء العرض المتشظية بنسق خفي لتشكل صورة معينة، هذا النسق لا يحدث في الكيان المادي للعمل الفني، بل يحدث في عقل المتلقي” ، إذ أن ما يميز العرض المسرحي التفاعلي من غيره هو ذلك الحضور الآني واللقاء والمشاركة بين الممثل والجمهور. ومن هنا تتأتى خصوصيته في تحقيق زمكانية مشتركة للتلقي بين منتجيه، وهذا يقابل مفهوم أفق التوقع الذي رسمهُ (هانز روبرت ياوس) ضمن طروحات نظرية (جمالية المتلقي) وفي حال تخييب أفق توقع المتلقي، يجعله أكثر انشدادا وإثارة للتواصل مع الحدث المسرحي، إذ يؤكد (ريتشارد فورمان) في حال تحريف عنصر التلقي، فذلك يؤدي إلى تحريف كل عناصر العرض الأخرى، وبهذا يتم إقصاء أي تصور عقلي سابق، لا تخلق مثل هذه العملية اهتماماً مباشراً بتحقيق تعدد المعاني والتفسيرات بل إلى تعليق فعل التفسير ذاته ومغادرته إلى فعل المشاركة، وهذا ما سعى إليه (فورمان) من أنْ يكون المتلقي مبدعاً ضمن طاقم مبدعي العرض، إذ يقول: “لا توجد مشكلة في أن نبدع عرضاً مسرحياً، لكن المشكلة كيف نجعل المتلقي مبدعاً يختبر حواسه بعيداً عن خطر الاندماج في العمل أو الإثارة”.
أما النوع الثاني من الاشتراك فهو (مادي قصدي)، يعني أن مشاركة المتلقي مشاركة فعلية لا تقتصر على التواصل الذهني والحسي فقط، ومنتج العرض هنا (المخرج) هو الذي يحدد القصدية إن وجدت، إذ أن وجود القصدية يتوقف على تصور المتلقي للشكل، وعلى تفاعله معه، وهكذا تتلاشى المسافة النقدية التقليدية بين (المتلقي والعرض)، فالنقد هنا لا يقوم على دراسة بناء الشكل للعمل المسرحي وإنَّما على غياب مسافته الجمالية،إذ أن عروض المسرح التفاعلي تقرر غياب هذه المسافة في انتاجاتها، ومن ثمَّ فالعملية النقدية لا تفسر دلالة الإشكال في العمل المسرحي، وإنما من علاقة المتلقي بتلك الأشكال ضمن الإطار التركيبي البنائي للعرض كله، وما يرسله المتلقي نفسه، ويؤكد هذا الطرح (ريتشارد فورمان) فيقول: “إنَّ بناء العرض المسرحي التفاعلي يتألف في العمل نفسه كشيء، ومن مشاركة المتلقي له شيء آخر. فالمسرح التفاعلي يعمل على استراتيجية تسعى إلى إشراك المتلقي في مناقشة واختبار كل المعاني، وإلى اقتناص الدلالات في ضوء الأحداث المطروحة في العرض.
ومن الجدير بالذكر أن ظهور المسرح التفاعلي قد ارتبط  بالكاتب والمخرج المسرحي البرازيلي (اوجستو بوال) الذي عرف باهتمامه بمسرح المضطهدين والمسرح السياسي، ويعتبر هذا النوع من  المسرح مدخلاً فعالاً في توضيح بعض المجالات والأفكار وإكساب الجمهور مجموعة من المفاهيم والقيم والمهارات، عن طريق إشراكه في الفعل المسرحي، ويعتمد هذا المسرح على التلقائية وعدم الدخول في تداريب دقيقة حينما يتعلق الأمر بإشراك الجمهور كممثل، وقد يمثل هذا الأخير دون اعتماد نص أو أزياء أو اكسسوارات، عكس الممثلين الرسميين في العرض المسرحي. وفي كل الحالات يصبح المشهد ساخناً درامياً، إذا كان الشخص الذي اقترح الفكرة موجوداً بين المتفرجيين، وما أن يبدأ الممثلون في أداء المشهد حتى يحرصون على تطوير الفكرة بحيث تصل إلى نقطه تصبح فيها المشكلة التي يتحدث عنها المشهد واضحة، وتحتاج إلى حل، فيتوقف الممثلون عن الأداء ويسألون الجمهور أن يضع حلا لهذه المشكلة، وهنا يبدأ المتفرجون في اقتراح الحلول، ويقوم الممثلون مباشرة بارتجال مشاهد تجسد الحلول، ويصبح لدى المتفرجين الحق في إيقاف التمثيل، بواسطة الميسر أو الممهد للعمل، وتصحيح الممثلين فيما يذهبون إليه من حلول، أو فيما يستخدمون من كلمات لوصف المشكلة، وهكذا يصبح الجمهور هو (مؤلف) المشهد والممثلون يؤدون ما يؤلفه الجمهور بشكل فوري على المسرح. والعارضين في المسرح التفاعلي هم نماذج منفتحة على نفسها (بعكس طريقة ستانسلافسكي).
ويستخدم هذا النوع من المسارح خطوات أساسية، تمثل أسلوبه الخاص مع ممثليه والتي تبدأ من التمرينات وتستمر خلال العرض الاتصال مع نفسه بنفسه، الاتصال بالآخرين بدون تكوين سردي أو تشكيل عال، الاتصال بالآخرين مع تكوين سردي أو تشكيل عال، إن مشاركة المتفرجين في المسرح التفاعلي توسع من حقل ماهية العرض، لأن مشاركة المشاهدين تتم بدقة في النقطة، حيث يهدم العرض ويصبح حدثاً اجتماعياً. بكلمة أخرى، فإن المشاركة هي متعارضة مع فكرة احتواء الذات، الاستقلالية، بداية، وسط، نهاية.
وبهذه الطريقة، فإن المشاركة تعني: تحويل الحدث الجمالي إلى حدث اجتماعي، أي تحويل التركيز من الفن والمحاكاة إلى محتوى حقيقي كامن أكثر صلابة، لكل من في المسرح بعكس جماليات المسرح التقليدي التي تفرض احتواء الذات والاستقلالية بقوة، وهذا يمثل إعادة إحياء مشاركة الجمهور التي كانت سائدة في العصور الوسطى.
يهدف المسرح التفاعلي إذن إلى إعادة مشاركة الجمهور باعتبارها قناة نهائية تجريبية للمحاولة الأولى، من أجل دعمها وإعادة خلقها من خلال فتح النظام التواصلي وجعل التغذية الاسترجاعية ممكنة ومفعمة بالبهجة.
وحسب (ماري إلياس) فإن المسرح التفاعلي هو المسرح الذي يُطَبق على مبدأ الارتجال واللعب، ويحاول أن يحافظ على مبدأ المتعة ( أي متعة الملقي) ويقلب أسس المسرح التقليدي من أجل التغيير عبر حوار مع متلقية حول موضوع  محدد.
بينما مسرح حي للتنشيط الاجتماعي، يتيح للجمهور إمكانية التواصل والتفاعل والتفكير والتعبير والمناقشة مع الممثلين وفيما بينهم، بكامل الحرية وفي جميع الحالات والمواقف، فهو يشجع الجمهور على مراجعة معارفهم ومواقفهم وسلوكياتهم، ويعرض المشاكل أمامه ويدفعه إلى مناقشتها والبحث عن حلول لها، الأمر الذي يسهم في زيادة الوعي وتطوير المهارة  لدى الجمهور.
ومن خلال التطبيق العملي لهذه التجربة، يلاحظ أن الأداء التمثيلي للطرف الأول من الرسالة، لا زال يتجه إلى الصيغ التقليدية للأداء، ويحاول بحذر وتوجس أن يطلق طاقاته الأدائية لتؤدي فعلها في هذه التجربة الفتية، فكانت المحاولات فردية، لا تتسم بالشمـول والوضوح في تقنياتها، ولذلك اتجه الباحث إلى دراستها، والبحث عن الأطر التنظيرية لهذه التجربة، لكي تكسبها الصلابة والوضوح، باعتبار أن المعرفة بهذا الشكل المسرحي تعد ضرورة أساسية ومهمة، بعد أن حقق هذا المسرح نجاحا كبيرا في أنحاء عديدة من العالم والوطن العربي.
ولما اطلع الباحث على أدبيات الاختصاص وجهود الباحثين الذين سبقوه، لم يجد أن هناك من تصدى لهذه المشكلة، وهذا بحد ذاته، يمثل مشكلة بحاجة ماسة إلى المعالجة. ولذلك وجد ضرورة التصدي لها في دراسة علمية لكي يسعى لرسم الأطر الأدائية العلمية والعملية فيها، سيما وأن الباحث قد خاض العديد من التجارب في هذا المجال.
وهكذا حاول المسرح التفاعلي في المزج بين الفعل المنظم والأجزاء الدرامية المفتوحة والتي ليست مجرد لحظات ارتجالية، يقوم فيها المؤدون بالأداء بشكل حر انطلاقاً من مجموعة الأهداف والقواعد، ولكن لحظات مفتوحة (وغير مجهز لها مسبقاً) يقوم فيها كل من بالقاعة بالتمثيل سواء فردياً، أو في مجموعات صغيرة أو في شكل جوقة موسيقية، وذلك للدفع بالفعل الدرامي إلى الأمام.
إذ أن هذا المسرح يترك آثارا لا يمكن نسيانها على المدى القصير، متمثلة في اكتشاف الناس لأنفسهم من خلال التفاعل مع عروضه التي تعد بمثابة لحظات تعارف واكتشاف جماعي، تتمحور حول قيم وأبعاد جماعية مشتركة، ذات طابع إنساني وقيمي. يعمل المسرح التفاعلي على تعبئة المجتمع بصورة مباشرة من خلال فكره، يعرضها أمام أعين الجميع، فتختلف المظاهر الاجتماعية والسايكلوجية، ويقوم بدفع الجمهور للبحث ذاتياً عن الحلول، كما أنه يعمل على كسر جدار الصمت المقيم حول الموضوعات الاجتماعية التي يصعب تداولها بين الناس.
يستمد المسرح التفاعلي قوته وفاعليته من تجسيده المباشر للواقع بكل تشعباته وتناقضاته، فهو يعكس حالات وأوضاع إنسانية، تتجلى فيها شتى أشكال الأفكار والمشاعر والمعتقدات والعادات والتقاليد، ويتم تجسيد ذلك كله من خلال آليات وتقنيات مختلفة، كالحوار بين الممثلين أو بين الممثلين والجمهور، وحركة تجسيد الجسد بإيقاعاته المتنوعة والصوت بكافة نغماته ودلالاته، والغناء والموسيقى وكذلك الوسائل السمعية والبصرية، وقد استفاد المسرح التفاعلي من البؤرة الواحدة في المسرح التقليدي، وأضاف لها تعدداً في البؤر، أي أن عددا من الأحداث المتزامنة موزعة في الفضاء، بحيث أن كل حدث يتنافس مع غيره لشد الانتباه، والحوادث تتم أمام وفوق وتحت وحول المشاركين، وبالتالي فهم محاطون بتشكيلة من الصور المرئية والأصوات، وليس مهما أن تكون كثافة الأحداث سميكة، ما هو مهم أن الأحداث المتفرقة تقود إلى الشعور بكبر الفضاء بأغلب حجمه.

> وسام عبد العظيم

Related posts

Top