يوميات جحيم البوليساريو

العودة للوطن داخل صندوق سيارة

داخل الجزائر العاصمة زاد حنيني لوطني المغرب. والواقع أنه منذ اليوم الأول لاختطافي ظل هاجسي هو متى أعود إلى المغرب. فقد حدث أن أرسلت رسالة لوالدي الذي كان يقيم بالرباط،  كتبت فيها بالحرف” ”لا زلت يا والدي كما كنت تعهدني” . كان بودي أن أملأ صفحات وصفحات، ربما قد لا تشفي غليل من يحس بالفراق ويحن لوطنه المغرب. لكنني خشيت أن تفتح السلطات الجزائرية الرسالة. وقد علمت فيما بعد أن والدي لم يتوصل بها، لأنها وقعت بين يدي المخابرات المغربية ”ال دي اس تي” التي لم تسلمها له إلا عند عودتي لبلدي المغرب .
داخل الجزائر، كانت الصور تتراقص أمام عيني يوميا. صور تشدني إلى الرباط والدار البيضاء حيث تابعت دراستي، صور أهلي في الصحراء المغربية ، صور زملائي الأوائل بدار التوزاني، وزملائي التلاميذ وأصدقائي بمن فيهم أولئك الذين درسوا بالمغرب وأسسوا جبهة البوليساريو.

لم يطل مقامي في منصب مدير الإذاعة الصحراوية، حيث سرعان ما سأغادره إلى منصب آخر، على رأس إدارة صحيفة الصحراء الحرة. وأمضيت في المنصب الجديد قرابة أربع سنوات. وخلال الفترة المذكورة، أي بين الإفراج عني من السجن إلى غاية انتهاء مدة انتدابي عل رأس جريدة الصحراء الحرة،كمنت أمارس عملي بالمخيمات.  
وارتأت قيادة البوليساريو أن تسند لي منصبا في غاية الأهمية، وهو منصب مدير الإعلام، الذي يعد بمثابة المسئول عن تطبيق السياسة الإعلامية والدعائية للانفصاليين.
في هذا المنصب، كنت الآمر الناهي في كل ما يتعلق بالنزاع في الصحراء، ولا تملك البوليساريو إلا الموافقة. وفي تلك الأثناء، ورغم المسؤوليات الملقاة على عاتقي، لم تفارقني فكرة العودة إلى الوطن، بل أضحت لدي هاجسا يوميا.

عندما أًصبحت مديرا للإعلام وقفت على الكثير من الأمور الخطيرة والغريبة. فعلى سبيل المثال كانت البيانات والبلاغات، وحتى الرسائل والبرقيات الموجهة إلى عدد من مسؤولي الدول تأتي من الجزائريين وليس من البوليساريو، وغالبا ما يجهل هؤلاء توجيهها، ولا يتم حتى إخبارهم بها. وغالبا ما يطلعون عليها أثناء إذاعتها.   
خلال عملي في الجزائر جاءتني رسالة من رئيس ما يسمى بالبرلمان الصحراوي سيدي محمد رحال موجهة إلى رئيس البرلمان الأوروبي بستراسبورغ، وكانت رسالة قوية تقع في حوالي 14 صفحة، وفعلا أذعنا تلك الرسالة عبر وكالة الأنباء الجزائرية والإعلام الرسمي المساند للانفصاليين.
وللتذكير فقط فالمسؤول الصحراوي هذا كان إنسانا طيبا وتلقائيا، غير أنه  لم يكن له أي تكوين لا سياسي ولا عسكري. والأدهى من هذا كله أنه كان رجلا شبه أمي. ومن غريب الصدف أن الرسالة أذيعت ونشرت على نطاق واسع في المساء، وفي الصباح الباكر من اليوم الموالي توجهت إلى تندوف لأخذ بعض العطلة، وفور وصولي إلى المخيمات صادفت في نفس اليوم رئيس ما يسمى بالمجلس الوطني، وكانت إذاعة البوليساريو نفسها قد أذاعت الرسالة في نفس اليوم.
وعندما تصافحنا قلت له “أحييك على تلك الرسالة القوية التي بعثت بها إلى رئيس البرلمان الأوربي”، ومن فرط تلقائيته وطيبوبته أجابني ّفي الحقيقة أنا لم أبعث أي رسالة ولا علم لي بها، فالإخوان الجزائريون يقومون بكل شيء جازاهم الله عنا خيراّ.  
وهذا فقط غيض من فيض لإعطاء فكرة بسيطة على أن قيادة البوليساريو لا علم لها بما تقرره الجزائر. فحتى الدول المعترفة بالبوليساريو فالجزائر هي التي تتولى التنسيق معها، وتكتفي بإبلاغ البوليساريو بما قامت به وما وصلت إليه.   
كان الوضع في المخيمات منذ انتفاضة الرابوني في حالة طوارئ، وعلمت القيادة أن نزيفا في صفوفها بات وشيكا. لهذا استدعيت من طرف وزير الإعلام للتوجه على وجه السرعة إلى المخيمات، وبعث لي بأربع تلكسات من أجل ذلك. وكنت مدركا تمام الإدراك حجم المغامرة التي أنا مقدم عليها. فالجزائريون الذين كنت أتواجد بينهم يشكون في أي حركة. فلو علموا بما كنت أخطط له لأقاموا لي محاكمة شعبية بتهمة الخيانة، على غرار ما وقع لعديد من المشاركين في الانتفاضات ضد البوليساريو.
كانت مخيمات تندوف تعيش حالة طوارئ، بعد انتفاضات جديدة، صاحبتها  اعتقالات واسعة همت  العديد من الصحراويين. أحداث جعلت دواخلي تشتعل رغبة في  الالتحاق ببلدي المغرب. لم أعد أعي ما بحولي ولا أدرك خطورة البقاء خارج سيرورة الأحداث. فحتى المراسلات التي تلقيتها من وزير الإعلام الجزائري والتي تدعوني للتوجه على وجه السرعة إلى تندوف لم أستجب لها.
إلا أنني عزمت أمر العودة إلى وطني، ولم يكن أمامي من خيار آخر سوى الذهاب في تلك المغامرة إلى نهايتها، بمساعدة صديق فرنسي.
كان هذا الفرنسي يعمل في مجال  التجارة، وبالضبط في بيع الآلات الخاصة بالطاقة الشمسية. توطدت علاقتي به وقررت  يوما منحه هدية تليق به. لم يدم التفكير طويلا. فحين زرته في بيته، قمت بضبط مقاييس صالونه. وبمجرد عودتي إلى المخيم طلبت من امرأة تحضير زربية  حمراء كبيرة يتوسطها مستطيل أسود، وعليها كلمة ” جوردان”.
لم يكن الأمر صعبا ولا معقدا. فقد كان هناك قسم للدعاية تابع للبوليساريو يقوم بإنجاز منتوجات تقليدية يدوية مثل الزرابي.
حين تسلم صديقي الفرنسي هذه الزربية فرح فرحا غامرا شاطره إياه مجموعة من الأوروبيين الذين كانوا برفقته.
بالمقابل، أعطاني سيارة من نوع بيجو 504 غيرت لوحتها واستعملتها في تحركاتي بدل سيارتي من  نوع رونو 4 .
بعد وقوع الانتفاضة الكاملة في المخيمات سنة 1988 والتي حضرت أطوارها الانتفاضة كاملة، التقيت صديقي الفرنسي فقلت له بالحرف: ” إنني ملاحق من طرف المخابرات العسكرية الجزائرية، ويجب أن تجد لي طريقة للالتحاق بالمغرب أو للذهاب لفرنسا أو أي بلد آخر.
أبدى رغبة كبيرة في مساعدتي وكان يملك القدرة على ذلك. فالرجل كان يتعامل مع المهربين. لكنني سرعان ما سأتراجع قليلا إلى الوراء. خفت من أن يكون هذا الفرنسي مجندا من قبل  المخابرات الجزائرية فأقدم لها صفقة على طبق من ذهب. كما دار في خلدي أن يكون أحد المهربين الذين يعمل معهم على علاقة بالاستخبارات الجزائرية.
ورغم كل المخاطر التي من المحتمل وقوعها، اضطررت إلى اللجوء للسفارة المغربية في الجزائر. فهي على كل حال تحضى بالحراسة.
لا أعلم كيف دخلت السفارة المغربية التي كان على رأسها رئيس المعهد المغربي للذكاء الاستراتيجي ، أمين سر أكاديمية المملكة و طبيب الحسن الثاني.
قضي أمر الخروج من الجزائر، لتنطلق مغامرة جديدة. لحظة فارقة انتظرتها طويلا، لكنها ستتم داخل  صندوق سيارة اختبأت فيه طوال مسافة خلتها دهرا ولم تنته إلا بعد عبور حدود زوج بغال في الثانية صباحا نحو وجدة،  ثم فاس، قبل بلوغ مدينة الرباط .
كان ذلك فجر يوم 17 يناير 1989 . كان بالنسبة لي يوم ميلاد جديد.

رواها لبيان اليوم الراحل ماء العينين مربيه ربو

Related posts

Top