‎ من فعاليات الدورة 38 لموسم أصيلة الثقافي الدولي

في الكلمات الافتتاحية للندوة الفكرية المنظمة في إطار موسم أصيلة الثقافي، تحت عنوان «النخب العربية والإسلامية: الدين والدولة»، تمت الإشارة إلى أن الدولة بمفهومها المتمثل في التطابق بين الوطن وهيكله المتجسد في الدولة، لم تتحقق بعد، وأن هناك عدة تحديات تواجه الدول العربية والإسلامية، تتمثل في تحقيق التنمية وتكريس الهوية والانصهار الوطني في ظل وجود خليط من الاثنيات. وتم اعتبار أن فشل مشروع التنمية وغياب لمشروع نهضوي، كانت له كلفة عالية، تتجسد في ارتماء الشباب في أحضان التطرف.
‎ وأشارت الكلمات الافتتاحية كذلك – التي ساهم فيها نخبة من الأسماء الوازنة: محمد بنعيسى، عبد العزيز التويجري، صلاح القلاب، محمد خليفة..- إلى أن الأنظمة الحاكمة في العديد من الدول العربية والإسلامية لم تستوعب التغيرات الكونية، مما أدى إلى سقوطها. وتم وصف الإسلام السياسي باعتباره كارثة الكوارث، تجسد ذلك في التشظي وصراع الطوائف. وتمت الدعوة إلى ضرورة إعادة بناء وعي جديد للعبور نحو المستقبل، مع العلم أن جميع الدول العربية مستهدفة بالتفتت والتشظي.
‎ وأجمعت الكلمات الافتتاحية على قدرة النخب – مع حفاظها على الاستقلال الفكري وروح المبادرة- على التصدي للمؤامرات التي يتعرض لها العالم العربي والإسلامي، وكذا التأثير في مسار الأحداث المأساوية التي يعيشها، كما تم إبراز الوعي بالدور الطلائعي للنخب، في بناء حضارة إنسانية، بعيدا عن التعصب الديني والطائفي.
‎ وتمت الإشارة كذلك إلى أن إنقاذ هذه الأمة من محنتها، لن يتم بدون القيام بنقد ذاتي والتسلح بالعلم والمعرفة مع الحفاظ على الاستقلالية الفكرية.
‎ وفي المحور المتعلق بـ»الدين كتراث مشترك واحتكاره من لدن السياسة» الذي ساهم فيه الأساتذة أحمد العبادي وسامي عبد اللطيف ونعيم عبد الرحمن ورحمة مولياوان وعبد الجبار فالح  وعبد الحق العزوزي، تمت الإشارة إلى أن الدين ليس مجرد أحكام فقط، بل معمار يضم أبعادا تخطيطية وتنظيمية ترتبط بنسيج قيمي وفق هندسة لها وضوح، كما أن الدين له مقصد أسمى هو تحقيق السعادتين. لقد تشفير الدين حين اعتباره مجرد أحكام فقط، ففي القرآن لا نجد السياسة ولكن الحق والعدل وغير ذلك من المقاصد التي تسمو نحو تحصيل السعادة. فالدين يتأبى على الاحتكار. وتم استنتاج أن طلسمة الدين أوقعنا في المشاكل التي يتخبط فيها عالمنا الإسلامي.
‎ كما تمت الإشارة في هذا المحور إلى أن دعوى النخب الإسلامية هي أقرب إلى الدغدغة وأنه لم يتم إعطاء تفاصيل للدولة الدينية. وأن مشكلتنا ليست في الدين في حد ذاته على اعتبار أنه كان دائما حاضرا عبر التاريخ، ولكن الإشكالية تكمن في غياب مؤسسات ديمقراطية. فتوظيف موضوع الدين من قبل النخبة السياسية الحاكمة كان له ثمن باهظ، وهو ما نلمسه في الصراعات والتوترات العاصفة بمجتمعاتنا. الدين منذ الأزل يوحد ولا يفرق، في حين أن السياسة هي فن إدارة الاختلاف، حيث لا يمكن مثلا تصور انتخابات ديمقراطية جوهرها هو الاختلاف والتفريق. فربط الدين بالسياسة يؤدي إلى إدخال جرثومة السياسة للدين ومشاكل لا متناهية من قبيل الطائفية والحروب الأهلية.

‎محمد بنعيسى (الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة) الحاجة إلى صياغة منظومة للعلاقة بين الدين والدولة

‎لقد نوقش موضوع «النخب: الدين والدولة» من زوايا متعددة وبعناوين مختلفة، في دورات الموسم السابقة، لكن يوجد أكثر من مبرر للعودة إلى الموضوع، فهو متشعب متشابك العناصر والعوامل المتفاعلة فيه، يقوي مناسبته التحولات الجارية بإيقاع فوضوي لا عقلاني في عدد من الدول العربية، وأفرزت هذه التحولات كائنات متوحشة تحترف القتل الأعمى والتدمير الشامل باسم الدين والإيهام بالدولة.
‎ لقد تطرق محللون ودارسون لمجريات الربيع العربي وتداعياته المحبطة، فسموه خريفا، وقفوا كذلك عند عجز النخب عن التأثير في حشود هائجة اقتحمت واحتلت الساحات والميادين، بينما سجل هؤلاء المحللون والدارسون أن أغلبية النخب ظلت منكفئة على ذواتها، تشاهد غير مصدقة ما يحدث أمامها في حال من الدهشة والذهول، لا تدري كيف تتجاوز اللحظة الحرجة والخروج من الدوامة. ولا يجرؤ مفكر في الظرف الراهن على تبرئة النخب من بعض مسؤولياتها، وتبرير تقاعسها في التعاطي مع ما لم يكن في الحسبان، ولماذا أقصيت أو أقصت نفسها من المعترك.
‎ عالمنا الإسلامي يواجه حاليا إشكالات صعبة ومعقدة، فلا هو قادر على صنع عصر تنويره ولا المحافظة على نظمه السياسية، فبالأحرى الدفاع عن كيانه الوطني ووجوده البشري والجغرافي والحضاري.
‎لا بد من التأكيد هنا على أنه لا يمكن فصل الدين وعزله عن الممارسات والتوجهات التي يباشرها الأفراد والجماعات في المجتمعات العربية والإسلامية، علما بأن دروس التاريخ تعلمنا أن رجال الدين، وخاصة منهم المنغلقين، حينما يتولون أمور الدولة، لا تسلم العاقبة دائما بخير. دون أن تعني هذه الملاحظة الدعوة إلى إقصاء المكون الديني واستبداله بآخر إيديولوجي بذريعة الحاجة إلى علمانية هجينة. إن القصد هو حث النخب العربية والإسلامية لكي تعمل التفكير وتحاول صياغة منظومة تنظم وتؤسس العلاقة بين الدين والدولة. ليس ضروريا أن تسمى علمانية، رفعا لتبعية أو تقليد للغرب، خاصة إذا تأسست المنظومة المبتغاة على مبادئ تتعايش في ظلها الطوائف والمعتقدات والملل والنحل. أمام النخب العربية والإسلامية مهمات لا تقبل التأجيل لإثبات حضورها الفاعل في المجتمع، كقوة اقتراحية ضاغطة وموجهة لما ينبغي أن يكون عليه التحديث والتقدم وتشييد صرح الحكم الرشيد، تستفيد من الإرث الفكري والفلسفي لعصر التنوير والعولمة، وذلك باستيعاب الآليات التي سهلت عملية الانتصار على الجمود والانغلاق. هذه السيرورة الفكرية ستجعل مجتمعاتنا تستشرف آفاق الحكم الرشيد، حيث يتساوى الجميع دون إقصاء أو تبخيس لمعتقدات دون أخرى.

‎عبد العزيز التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة

‎احتكار الدين من لدن السياسة هو تأويل لا نصيب له من الصحة
‎ يطرح موضوع هذه الندوة أسئلة كثيرة حول قضايا تتطلب مزيدا من التدقيق، إزالة للبس الذي يشوب بعضها، وتوضيحا للحقائق التي كثيرا ما تتوارى خلف كثافة الادعاءات والتشويهات، وتنويرا للرأي العام، خصوصا النخب الفكرية والثقافية والعلمية والإعلامية التي تنهض برسالة التنوير الفكري عبر مختلف قنواته. وأرى أن العنوان الذي اختير لمحور الندوة: «الدين كتراث مشترك واحتكاره من لدن السياسة»، لا يعبر تعبيرا دقيقا عن واقع الحال، ذلك أن الدين، أيا كان، ليس تراثا، لأن الدين رسالة إلهية وحق مشترك بين المؤمنين به، بينما التراث هو عمل من صنع البشر، فهو بذلك من المشترك الإنساني.
‎ إن احتكار الدين من لدن بعض الحركات السياسية والفكرية التي تقول إنها تتحدث باسم الدين وإقصاء الدين عن السياسة من قبل بعض التيارات السياسية والفكرية التي ترفع شعار العلمانية، هو الأمر الذي يشكل تحديا يواجه المجتمعات العربية الإسلامية خلال هذه المرحلة العصيبة التي تعيشها. ولئن كانت ثمة أسباب كثيرة تؤدي إلى الالتباس في فهم مدلولات تعاليم الدين ومفردات نظم السياسة، مما يوقع في الخلط وتنشأ عنه الأزمة، فإن تحديد المفاهيم وضبطها وتحرير المصطلحات وتأصيلها، هما المدخل إلى الفهم السليم، وإلى التفاهم المبعد للاختلاف الذي يفضي إلى الخلاف، وما يترتب عليه من مضاعفات تنعكس على الوئام الاجتماعي، وقد تكون لها آثارها المضرة على الاستقرار السياسي. ومن المنطقي أن التعدد في المفاهيم الرائجة والتعصب لها، يضيقان من مساحة الفهم والتفاهم. وإذا كانت المفاهيم تنبع من الثقافة السائدة، وتستند إلى الخصوصيات الروحية والثقافية والقانونية، فإن التعامل مع المفهوم، وليكن الدين والسياسة، ينبغي أن يقوم على أساس من الاستيعاب العميق لتلك المضامين والبناء عليها.
‎ الإسلام لم يحدد نمطا معينا للدولة لا يتجدد ولا يتطور، بل وضع المبادئ، وأرسى الأسس ورسم المعالم وحدد الإطار وترك للمسلمين انتهاج ما يرونه ملائما لواقعهم ومناسبا لمستجدات حياتهم ومستجيبا لقضايا عصرهم، في ظل مقاصد الشريعة التي حددها العلماء في حفظ الكليات الخمس، وهي: الدين والنفس والعقل والمال والنسل، والتي تقسم إلى مصالح ضرورية ومصالح حاجية ومصالح تحسينية. وحيث إن الإسلام لم يأت بنموذج واحد للحكم وبأي شكل محدد للسياسة، فإن إضفاء الصفة الإسلامية على أي نوع من الحكم أو على السياسة، هو تجاوز لا أصل له، فنحن لا نجد في معجم مفردات الثقافة الإسلامية أو العلوم الشرعية، مصطلح «الحكم الإسلامي» أو «السياسة الإسلامية»، أو حتى «الدولة الإسلامية». نعم نجد «الحكم الشرعي» ونجد « السياسة الشرعية»، ولكن ليس بالمفهوم المتداول للحكم وللسياسة، كما يفهمان اليوم في العلوم السياسية.
‎ ليس القصد أن الإسلام لا علاقة له بالسياسة، بالمدلول القانوني العام، فهذا مما لا يقول به عاقل، ولكن ما نؤكده هو أن الإسلام لم يأت بنظرية محددة في الحكم وبمفهوم ضيق للسياسة وهو ما يتفق وكونه رسالة هداية ورحمة للعالمين لا يحددها زمان أو مكان أو مجال.
‎ وبذلك نصل إلى النتيجة التالية وهي أن احتكار الدين من لدن السياسة، بالفهم المغلق، هو تأويل ليس له من موجبات الصحة نصيب، وأن إقصاء الدين عن السياسة تعسف لا مبرر له. فالدين يمثل في تعاليمه وأخلاقه، مكونا أساسا من مكونات الحكم في الإسلام.

مبعوث بيان اليوم إلى أصيلة: عبد العالي بركات

Related posts

Top