29 يناير 1944 .. حينما التحم الحسن الثاني بسكان الرباط للاحتجاج ضد اعتقال زعماء الحركة الوطنية

في مثل هذه الأيام من سنة 1944، خرجت حشود الجماهير الشعبية من قلب مدينة الرباط منددة بإقدام سلطات الإقامة العامة للحماية على اعتقال زعماء الحركة الوطنية، وقد بلغ صدى هذه المظاهرات ولي العهد آنذاك جلالة المغفور له الحسن الثاني، وهو داخل المعهد المولوي، فتخطى سوره والتحق بصفوف المتظاهرين.
وقد عبر جلالته عن ارتسامـاتـه عن ذلـك اليوم بقوله: «هناك تاريخ مضبوط ظل عالقا بذاكرتي هو 29 يناير 1944. في ذلك اليوم، اكتسح جمهور من المتظاهرين شوارع الرباط، مرددين شعارات المطالبة بالاستقلال، وبلغني صدى هذه المظاهرات وأنا داخل المعهد المولوي، فتخطيت سوره، والتحقت بالمتظاهرين. وأضاف جلالته مبرزا الأثر القوي لهذا الحدث التاريخي حيث قال: «لقد ترك يوم 29 يناير بصماته بعمق في ذاكرتي، كان معي يومئذ ثلاثة من رفاقي في المعهد، وكنا نصيح بصوت واحد: سنحصل على الاستقلال».
وأمام حملات القمع والتعسف للسلطات الاستعمارية التي تلت حدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ألح بطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس على الإفراج عن المعتقلين جميعهم، لكن سلطات الحماية استغلت مقتل أحد الأوروبيين لتطوق المدينة وتقوم بإنزال قواتها، وأطلقت النار على المتظاهرين الذين دافعوا عن أنفسهم بكل شجاعة واستماتة، مما خلف شهداء رووا بدمائهم الزكية شجرة الحرية والاستقلال، ومعتقلين صدرت أقسى الأحكام في حقهم.
وكان لمدينة سلا دور بارز في هذه الانتفاضة العارمة التي اندلعت في مواجهة الغطرسة الاستعمارية، وتأييدا لمبادرة تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ودفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية، حيث هب وطنيون من هذه المدينة في انتفاضة تاريخية، مخترقين شوارعها، متحدين قوات الاحتلال وهجومها الشرس عليهم والذي أدى إلى سقوط شهداء أبرار وهبوا أرواحهم فداء للوطن.
واتسعت دائرة هذه الانتفاضة الشعبية، وامتدت المظاهرات لتشمل سائر المدن المغربية، كفاس التي شهدت سقوط عشرات الشهداء والجرحى، ومكناس ومراكش وازرو وغيرها من المدن.
وتسارعت الأحداث لتحتدم المواجهات بين القصر الملكي وسلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية، إذ أقدمت سلطات الحماية في 20 غشت 1953 على نفي بطل التحرير والاستقلال وأسرته الشريفة في محاولة يائسة لإخماد الروح الوطنية مما أجج شعلة الكفاح الوطني لتنطلق المقاومة المسلحة والمظاهرات العارمة وعمليات جيش التحرير إلى أن تحققت إرادة العرش والشعب، وعاد رمز المقاومة والتحرير جلالة المغفور له محمد الخامس، من المنفى إلى أرض الوطن في 16 نونبر 1955، رفقة شريكه في الكفاح والمنفى جلالة المغفور له الحسن الثاني والأسرة الملكية الشريفة، حاملين بشرى انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الحرية والاستقلال.
وقد حظيت هذه الملحمة البارزة والمحطة التاريخية الخالدة في مسيرة كفاح الشعب المغربي من أجل الحرية والاستقلال، بعناية موصولة واحتفاء دائم ومستمر، ومن ذلك تنظيم مهرجان كبير بمناسبة الذكرى الخمسين لها تحت الرعاية الملكية السامية حيث تفضل جلالة المغفور له الحسن الثاني، فأناب عنه سمو ولي العهد آنذاك صاحب الجلالة الملك محمد السادس، لإزاحة الستار يوم 29 يناير 1994 عن اللوحة التذكارية المقامة تخليدا لأحداث يوم 29 يناير 1944 بساحة مسجد السنة بالرباط، والترحم على هذه الملحمة الخالدة، وتكريم أسمائهم تقديرا لتضحياتهم الجسام.
وإن أســرة الحركــة الوطنيـة والمقاومـة وجيـش التحريـر، إذ تخلـد الذكـرى 75 للانتفاضـة الشعبيـة لـ 29 و30 و31 يناير 1944، لتتوخى إبراز دلالات هذا الحدث التاريخي الوازن والمتميز وتلقين دروسه وعبره وعظاته للناشئة والشباب والأجيال الجديدة وتعريفهم بأمجاد تاريخ الكفاح الوطني الخالد الذي هو بحق من أعز ممتلكاتنا، تمشيا مع التوجيهات السامية لجلالة الملك محمد السادس الداعية إلى التزود من معاني النضال والمقاومة، واستحضار بطولات الشهداء، والإشادة بأدوار كافة شرائح الشعب المغربي في ملحمة العرش والشعب.
كما تستحضر أسرة الحركة الوطنية والتحريرية باحتفائها بهذه الذكرى العظيمة التي يحق لكل المغاربة الاعتزاز بحمولتها الوطنية ورمزيتها وقيمتها التاريخية الخالدة، ملاحم الكفاح الوطني في سبيل تحقيق الحرية والاستقلال والوحدة الترابية، مستلهمة قيم الصمود والتعبئة الشاملة والالتحام الوثيق للشعب المغربي، قمة وقاعدة، دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية، ومجددة التعبير عن التجند الدائم والمستمر صيانة للوحدة الترابية التي لا تزيدها مناورات الخصوم إلا صمودا وإصرارا وإشعاعا.
إن المغرب اليوم بقدر ما هو متمسك بمبادئ الحوار وحسن الجوار، فإنه لن يفرط قيد أنملة في حقوقه المشروعة بتثبيت سيادته على الأقاليم الجنوبية المسترجعة، وسيظل على استعداد للتعاون مع المنتظم الأممي لإنهاء النزاع المفتعل حول اقاليمنا الجنوبية المسترجعة، ليتسنى للمنطقة المغاربية أن تسير في طريق التقارب والتعاون والعمل المشترك لبناء اتحاد المغرب العربي الكبير الذي تتطلع إليه شعوبنا.
وهو ما جدد التأكيد عليه جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي يوم 6 نونبر 2018 بقوله «وبكل وضوح ومسؤولية، أؤكد اليوم أن المغرب مستعد للحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة، من أجل تجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية، التي تعيق تطور العلاقات بين البلدين. ولهذه الغاية، أقترح على أشقائنا في الجزائر إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور، يتم الاتفاق على تحديد مستوى التمثيلية بها، وشكلها وطبيعتها. وأؤكد أن المغرب منفتح على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود التي تعرفها العلاقات بين البلدين الجارين الشقيقين. وتتمثل مهمة هذه الآلية في الانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية، وصدق وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، ودون شروط أو استثناءات. ويمكن أن تشكل إطارا عمليا للتعاون، بخصوص مختلف القضايا الثنائية، وخاصة في ما يتعلق باستثمار الفرص والإمكانات التنموية التي تزخر بها المنطقة المغاربية».
ومن المحقق أن المبادرة الجديدة التي أطلقها الخطـاب الملكي السامي بمناسبة تخليد الشعب المغربي للذكــرى 43 لحدث المسيرة الخضراء المظفرة تجسد حصافة الفكر ورجاحة الرأي وصواب الموقف المغربي لإنهاء النزاع المفتعل حول أحقية ومشروعية المغرب في نصرة وحدته الترابية وتثبيت مكاسبه الوطنية.
وأسرة المقاومة وجيش التحرير إذ تبارك هذه المبادرة الحكيمة والمتعقلة والواقعية لتؤكد وتجدد وقوفها الثابت وتعبئتها المستمرة ويقظتها الموصولة من أجل الانتصار النهائي لقضيتنا الوطنية الأولى، قضية الوحدة الترابية.
وهو ما أكده جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى 43 للمسيرة الخضراء في 6 نونبر 2018 حيث يقول: «وها نحن اليوم، نربط الماضي بالحاضر، ونواصل الدفاع عن وحدتنا الترابية، بنفس الوضوح والطموح، والمسؤولية والعمل الجاد، على الصعيدين الأممي والداخلي. ويتجسد هذا الوضوح في المبادئ والمرجعيات الثابتة، التي يرتكز عليها الموقف المغربي، والتي حددناها في خطابنا بمناسبة الذكرى الثانية والأربعين للمسيرة الخضراء. وهي نفس المرجعيات التي تؤسس لعملنا إلى اليوم. كما يتجلى في التعامل، بكل صرامة وحزم، مع مختلف التجاوزات، كيفما كان مصدرها، التي تحاول المس بالحقوق المشروعة للمغرب، أو الانحراف بمسار التسوية عن المرجعيات المحددة. أما الطموح، فيتمثل في تعاون المغرب الصادق مع السيد الأمين العام للأمم المتحدة، ودعم مجهودات مبعوثه الشخصي قصد إرساء مسار سياسي جاد وذي مصداقية.كما تعكسه أيضا، المبادرات البناءة، والتجاوب الإيجابي للمغرب، مع مختلف النداءات الدولية، لتقديم مقترحات عملية، كفيلة بإيجاد حل سياسي دائم، على أساس الواقعية وروح التوافق، وفي إطار مبادرة الحكم الذاتي. ويظل المغرب مقتنعا بضرورة أن تستفيد الجهود الحثيثة للأمم المتحدة، في إطار الدينامية الجديدة، من دروس وتجارب الماضي، وأن تتفادى المعيقات والنواقص التي شابت مسار “مانهاست”.
فالشعب المغربي بإجماع أبنائه مقتنع بعدالة قضيته الوطنية الأولى، وأحقيته في استكمال وحدته الترابية، والدفاع عن سيادته ووحدته ومواصلة تعبئته التامة ويقظته الموصولة في مواجهة الخصوم والمناوئين لحقوقه المشروعة على أراضيه المسترجعة وترابه المقدس إلى أن يتحقق طي وإنهاء النزاع الاقليمي المفتعل الذي يتمادى الخصوم في تأبيده ضدا على إرادة الشعوب المغاربية الشقيقة في بناء حاضرها ومستقبلها وإعلاء صروحها في أجواء الحوار وحسن الجوار والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
لقد تواصلت ملحمة صيانة الوحدة الترابية بكل عزم وإصرار لإحباط مناورات خصوم وحدتنا الترابية، وزادتها رسوخا ووثوقا التعبئة المستمرة للمغاربة في مواجهة كل التحديات الخارجية والتصدي لكل المؤامرات العدوانية.
والشعب المغربي اليوم بقيادة الملك محمد السادس، يقف صامدا في الدفاع عن حقوقه المشروعة وتثبيت مكاسبه الوطنية، مبرهنا بإجماعه الوطني عن تشبثه بصيانة وحدته الترابية ومباركته لمبادرة الحكم الذاتي الموسع للأقاليم الصحراوية المسترجعة في ظل السيادة الوطنية، ومؤكدا للعالم أجمع من خلال مواقفه الحكيمة والمتبصرة إرادته الثابتة وتجنده التام دفاعا عن مغربية الصحراء وعمله الجاد لإنهاء النزاع المفتعل وحرصه الصادق على تقوية أواصر الإخاء والتعاون وحسن الجوار بالمنطقة المغاربية.

Related posts

Top