65 سنة على اغتيال القيادي اليساري والمقاوم الشهيد عبد الكريم بن عبد الله

مرت خمسة وستون سنة على استشهاد عبد الكريم بن عبد الله، المثقف اليساري والقيادي الشيوعي والمقاوم البارز ضد الاستعمار الفرنسي، وأحد مؤسسي المنظمة الفدائية السرية “الهلال الأسود” وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي المغربي.
ولد عبد الكريم بنعبد الله بمدينة وجدة في 29 نونبر 1923، حيث تلقى تعليمه خلال المرحلتين الابتدائية والثانوية، ليرحل بعد حصوله على البكالوريا إلى فرنسا لمتابعة دراسته الجامعية، ملتحقا بالمدرسة العليا للمناجم بباريس.
وخلال مرحلة الدراسة الجامعية بفرنسا، انخرط في الحزب الشيوعي المغربي عام 1947، حيث برز بنضاله الوطني في أوساط الطلبة المغاربة، وكان من أبرز المساهمين في تأسيس “اتحاد الطلاب المغاربة” رفقة مناضلين آخرين مثل عبد الهادي مسواك عبد الرحيم بوعبيد…  كما تحمل مسؤولية في منظمة الشبيبة الشيوعية المغربية، حيث ترأس الوفد الشبابي المغربي في المهرجان العالمي الثالث للشباب والطلبة المنعقد ببرلين سنة 1951.


بعد إتمام دراسته العليا، رجع المهندس عبد الكريم بن عبد الله إلى المغرب عام 1950 واشتغل بإدارة المعادن، وصار عضوا قياديا في الحزب الشيوعي المغربي.. كما كانت له أنشطة ثقافية حيث تولى مهمة الإشراف على إصدار مجلة ثقافية تحمل عنوان “الفكرة الوطنية”.
وإثر أحداث الدار البيضاء في دجنبر 1952، وتعرض مكونات الحركة الوطنية السياسية والنقابية للقمع والاضطهاد من طرف سلطات الحماية الفرنسية، وحظر حزب الاستقلال والحزب الشيوعي المغربي، لبى نداء حزبه ودخل في العمل السري المطبوع بالمخاطر والصعوبات والمعاناة، متفرغا للنشاط السياسي والفدائي، وتخلى عن وظيفته كمهندس بإدارة المعادن بالرباط، تاركا العمل والراتب العالي الذي كان يتقاضاه 100.000 فرنك شهريا آنذاك، بل إنه قدم كل ما وفره من مال لحزبه ودخل في مرحلة السرية.
وخلال فترة العمل السري المفروض على الحزب، ظهر جيل جديد من المناضلين الذين تربوا في حياة السرية القاسية وقوي عودهم، وبزغت أسماء من قبيل عبد السلام بورقية وعبد الله العياشي ومحمد السطي ومحمد قوقجي والمعطي اليوسفي وأحمد الماضي (قصبة تادلة) وغيرهم… الذين اتضحت لديهم فكرة إنشاء منظمة للمقاومة المسلحة الأمر الذي عزز موقع أنصار النضال المسلح موقعهم داخل الحزب، ومن بينهم برز اسم عبد الكريم بن عبد الله كشخصية مناضلة وقائد مجرب من الجيل الجديد.
وهكذا في عام 1953 قررت القيادة السرية للحزب الشيوعي المغربي انخراط الحزب في الكفاح المسلح، وتم ربط الصلة بمقاومين آخرين من قدماء منظمة “اليد السوداء” مثل عبد الله الحداوي والحسن الكلاوي، وجرى تنسيق العمل لمواصلة الكفاح والإقدام على إنشاء منظمة مقاومة جديدة، تم تأسيسها بالفعل في شهر مارس 1954 “ذكرى إبرام عقد الحماية”، حيث بادر كل من عبد الكريم بن عبد الله والحسن الكلاوي وعبد الله العياشي والطيب البقالي (شارك في الشبكات الشيوعية للمقاومة الفرنسية في مطلع سنوات 1940) وعبد الله الحداوي (كان سنه 17 عاما واغتيل عن عمر 19 سنة)، بمعية مقاومين آخرين من خارج الحزب، إلى تأسيس حركة جديدة للمقاومة أطلقوا عليها اسم “الهلال الأسود” باقتراح من الحداوي، وكان عنوان أول منشور أصدرته هو “من اليد السوداء إلى الهلال الأسود”.

ورغم قلة خلايا هذه المنظمة، فقد قامت بأعمال جدية ونفذت عدة عمليات، من أبرزها: تصفية بعض المتعاونين مع الإدارة الاستعمارية، إلقاء قنابل داخل أحياء أوروبية في الدار البيضاء (مثل القنبلة التي انفجرت بشارع باريس)، عقد تجمعات سريعة خاطفة أمام المصانع الكبرى، كتابة شعارات في الشوارع، وضع ملصقات على الجدران، توزيع مناشير في الأسواق الشعبية (المنشورات تحمل صورة رشاش واسم المنظمة)، طبع سري بآلة الرونيو لجريدتي الحزب “إسبوار” (الأمل) و”حياة الشعب”، توجيه نداءات الحزب عبر راديو “صوت الاستقلال والسلام” الذي كان يبث من براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا بواسطة المناضل الشيوعي الصحفي والمذيع محمد فرحات المطرود من المغرب عام 1948 من لدن السلطات الاستعمارية… 
وبعد استقلال المغرب وتشكيل أول حكومة مغربية، تدخل عبد الكريم بنعبد الله يوم  19 يناير  1956 على رأس وفد لدى وزير الشغل للمطالبة برفع الأجور.. 
كان الفقيد متزوجا بمناضلة شيوعية ابنة طبيب شيوعي شهير في وهران مختص في أمراض النساء، اسمها سوزان لاريبير مارست مهنة الطب، وقد خلفا ابنين هما مراد وآسية يعيشان حاليا بالديار الفرنسية.
وقد جرى اغتياله الشنيع مساء السبت 31 مارس 1956، أي بضعة أيام بعد استقلال المغرب، وهو يغادر باب العمارة التي كان يقطنها الواقعة بطريق مديونة بالدار البيضاء، بغرض التوجه إلى الصيدلية لاقتناء الدواء لابنه، وعشية استعداده للسفر قصد المشاركة في أشغال اجتماع المجلس العالمي للسلم الذي كان يتمتع فيه بصفة العضوية.
وقد شارك في تشييع جثمانه أعضاء من حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال ومنظمات فدائية مغربية وجزائرية. وأغلقت المحلات التجارية في المدينتين القديمة والجديدة حدادا على الفقيد. واعتبر الحزب الشيوعي المغربي أن الجهة التي تورطت في جريمة اغتياله وأعقبتها بهجمات أخرى ضد مناضلي الحزب تطبيقا لمؤامرة التصفية الجسدية، هي نفس الجهة التي اغتالت أحمد الشرايبي، وثريا الشاوي، ومقاومين آخرين… 

ومن أجل التذكير وللتاريخ، فإن الهلال الأسود، لم يكن تنظيما شيوعيا؛ بل هو تنظيم وحدوي جمع بين مقاومين من مختلف الاتجاهات الوطنية، ومن ضمنهم مقاومون ينتمون إلى الحزب الشيوعي المغربي. 
وفي هذا الصدد، نتذكر ما كتبه القيادي في حزب التقدم والاشتراكية المناضل عبد الله العياشي في بيان حقيقة له موقع بتاريخ 28 يناير 1992: “

… إن منظمة “الهلال الأسود” كانت منذ تأسيسها في شكلها الوحدوي خلال شهر مارس 1954، مستقلة استقلالا ذاتيا تاما، تنظيميا وسياسيا وإيديولوجيا، رغم أنه كانت لمؤسسيها علاقات كثيرة مع جماعات المقاومة الأخرى، وهي سمة ميزت مقاومة هذا التنظيم عن مقاومات أخرى…”.. ويضيف العياشي قائلا: “بعد مفاوضات “اسل سان كلو” و”إيكس لبيان”، أسندت إلى “منظمة للمقاومة” مهمة جد خاصة لاستقطاب المنظمات المسلحة الأخرى وجعلها خاضعة لاتجاه سياسي معين واحد – وبالطبع نشأ إثر ذلك جو من الفوضى والاضطراب تسبب في هلاك عدد كبير من المقاومين من الهلال الأسود، من الحزب الشيوعي المغربي ومن منظمات عديدة أخرى – وفي هذه الظروف وقع استشهاد رفيقنا عبد الكريم بن عبد الله… وكانت فترة من أفظع فترات تاريخ مقاومتنا، بل وتاريخ حركتنا الوطنية التقدمية على وجه الخصوص. وسيأتي بالتأكيد يوم يسمح فيه بالتطرق لهذه الحقبة المؤلمة بكل الدقة المطلوبة وبجميع التفاصيل، وذلك فقط من أجل التحليل والتوثيق التاريخيين، لا غير.. “.
إن الكتابات التي ورد فيها ذكر الشهيد عبد الكريم بن عبد الله، رغم قلتها، والتصريحات التي أدلى بها شهود مرحلة ما بعد الاستقلال، تؤكد أن الرجل كان شعلة وضاءة، وتقرن دائما بين اسمه وبين العطاءات السخية والتضحيات الجسيمة التي قدمها للوطن وللحزب وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وتكفي الإشارة إلى كونه المهندس الجيولوجي المغربي الوحيد في المغرب آنذاك، يتخلى عن منصبه الإداري وعن موقعه الاجتماعي المريح لينخرط في النضال السياسي السري وفي الكفاح المسلح من أجل تحرر الوطن من الاستعمار الفرنسي، وكذلك من التخلف والجهل والرجعية.
إنها ذكرى لاستحضار محطات من تاريخ المغرب المعاصر، ووقفة تقدير وتكريم لنضال الشيوعيين المغاربة، واعتراف بما قدموه من كفاحات ثمينة وتضحيات معتبرة وخدمات جليلة من أجل استقلال وحرية المغرب، وفي سبيل التقدم والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.
فالرحمة والسكينة والسلام لروح الشهيد عبد الكريم بن عبد الله .

Related posts

Top