8 مارس .. حكاية امرأة ورجل .. طفل ومجتمع

في يوم الثامن من مارس، عاد طفلي البالغ من العمر تسع سنوات من المدرسة إلى المنزل بالأمس ليخبرني أن رفيقه في القسم يقول له أشياء غريبة. فقد أخبره أنه شاهد والده يُقتَل أمام عينيه على أيدي قطاع الطرق. وأنه منذ ذلك الحين وهو يفكر في أن يلتحق به في العالم الآخر. 

أعرف أن الطفل ليس يتيما ولكنه يعيش ظروفا عائلية صعبة تتمثل في نزاع وصل إلى القضاء بين أمه وأبيه، نزاع أصله شقاق وفصوله كثير من العنف وشيء من المشاهد الدموية أيضا مرت أمام أعين الطفل الذي فضل أن يَقتُل أباه في مخيلته على أن يعيش حقيقة الانفصال بينه وبين والدته.

كانت مهمتي صعبة بالأمس وأنا أحاول أن أضع حكايات هذا الصغير في إطار يستطيع أن يستوعبه عقل طفلي، دون أن أدخل كثيرا في التفاصيل، وأن أعمل على إقناعه بأن صديقه لا يقصد ما يقول وأنه فقط يحاول أن يثير الانتباه إلى وضع صعب لا يقبله. وجدتني أبحث عن الكلمات وأنا أرسم ذلك الإطار الذي وجدت أنا نفسي صعوبة في وضع حدود له في ظل مشاعر متضاربة وأفكار متزاحمة راودتني حينها.

تخيلت تلك الأم وما عانته من عنف على يد زوج لا أعلم بالضبط دوافعه في ذلك.. تخيلت اضطرارها إلى طلب الطلاق من أب أبنائها ومواجهتها لرفض هذا الأخير تسريحها بإحسان.. تخيلت اضطرارها للعب دور الأب والأم مع أبنائها بعد الانفصال. تخيلت كل ما تعانيه وما تزال.. تخيلت ألم الأب الذي لا بد أن يشعر به أي إنسان مهما كان صعبا وقاسيا وهو يواجه حرقة الانفصال عن فلذات كبده ويتجرع مرارة نبذهم له وقسوة نظراتهم إليه كلما حاول مد يده إليهم من بعيد..

لكن كل تلك المعاناة قد تبدو هينة أمام معاناة ذلك الكائن الصغير الذي وجد نفسه يقف مضطرا كشاهد على هذا الواقع.. معاناة لا أعتقد أن أيا من الأب يتصور حجمها عندما يجلس الطفل جسدا إلى طاولة الدرس في الفصل لكن عقله يظل سابحا في قصص لا قبل له بها.. ولسانه يلهج بأحاديث نعجز نحن الكبار عن تخيل مداها..

في الثامن من مارس.. يكون لمثل هذه الحكايات وقع الصدمة التي تصبح معها جميع الخطابات والشعارات المرفوعة بهذه المناسبة مجرد كلمات جوفاء بلا صدى.. أصابني الذهول وأنا أتأمل في حالة هذا الصغير متسائلة عما يمكن أن تفعله لأجله جميع قوانين العالم المعنية بالأسرة.. وجميع الحركات المدافعة عن حقوق المرأة والطفل، وجميع الدراسات حول سيكولوجية العنف وآثاره في الأسرة والمجتمع..

لقاءات كثيرة عقدت وحبر كثير سال خلال الأيام الأخيرة حول ضرورة إعادة النظر في مدونة الأسرة بما يتجاوز كثيرا من الحيف والقهر مازالت المغربيات يواجهنه داخل البيت وفي الشارع ومكان العمل، وفي المؤسسات وحتى في ردهات المحاكم، رغم الجهود الجبارة التي بذلها المشرع لدى صياغة المدونة منذ عقد ونيف. لم تفلح المدونة في تهذيب عنف الرجال وإسكات عويل النساء ومواساة أنين الأطفال، لم يفلح الفصل 19 في دستور 2011 ومختلف التعديلات التي تم إدخالها على عدد من القوانين الوطنية في رأب صدع اللامساواة والغبن الذي يحط من كرامة النساء ويحطم آمالهن ويكسر مجاذيف ارتقائهن في المجتمع. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن عقلية ذكورية متجذرة وآمالا نسائية محطمة لا يمكنها أن تنتج إلا براءة منخنقة وطفولة منكسرة وخيالات مدمرة..

أتخيل كيف سيكون رد فعل أم رفيق دراسة ابني عندما تعرف أن فلذة كبدها يفكر في الموت وهو لم يتجاوز بعد عتبة الحياة.. أتخيل كيف سيكون رد فعل الأب عندما يعلم أن ابنه الوحيد يفضل أن يتخيله ميتا ميتة الشهداء على أن يشاهده وحشا يمارس القهر والعنف على زوجته.. أتساءل هل نتصور جميعا ما الذي نصنعه من أبنائنا عندما يبذل الآباء قصارى جهدهم لكي «يتسيدوا» ساحة البيت بالسلطة المتجبرة، بالعنف الكاسر، والكراهية العمياء…

ما الذي نصنعه من أبنائنا؟ ما الذي ننتظره منهم ومن مستقبلهم؟ ما الذي نقدمه لهم ولهذا المجتمع؟ كيف لنا أن نحلم بوطن ونحن نغتصب الحلم في فلذات أكبادنا؟ كيف لنا أن نطمح إلى غد أفضل عندما نقتل فيهم زهرة عمرهم ونزرع فيهم إحساسا بغيضا باليأس والضياع في نفق مسدود يؤثثه الحقد والكراهية عوض المودة والرحمة؟

ملتمس واحد جعلتني هذه القصة «مضطرة» في الثامن من مارس أن أرفعه… ملتمس إلى كل من يحمل بين جنبيه أملا في المستقبل.. فقط ضعوا نصب أعينكم مشاعر هذا الطفل.. فقط تصوروا ما يمكن أن يكونه غدا.. فقط تصوروا كيف يمكن أن يبنى مجتمع بأكمله على أساس عنف لحظة وقسوة كلمة.. إن رعب المشهد المتخيل كفيل بأن يوضح الرسالة والمعنى ويغنينا عن كل مطلب أو شعار. 

سميرة الشناوي

Related posts

Top