في لحظة تكريمية راقية، التف ثلة من الباحثين في التاريخ والجغرافية وفي الهندسة المعمارية وتدبير المجال، حول قيدوم الجغرافيين المغاربة المفكر محمد الناصري، لتدارس ومناقشة كتابه “رغبات مدينة” في مائدة مستدير حول موضوع “تعدد مظاهر التحضر بين الماضي والحاضر” نظمتها جمعية سلا المستقبل بتعاون مع منتدى الجغرافيين الشباب أول أمس الخميس بمدينة سلا.
وفي بداية اللقاء، قدم إسماعيل العلوي رئيس جمعية سلا المستقبل، كتاب محمد الناصري “رغبات مدينة” (Désirs de ville) الذي يتكون من 22 مقالا، أو رسالة بالمفهوم الأدبي والجامعي، منها عشرون مقالا بالفرنسية ومقالا واحدا بالإنجليزية، وآخر باللغة العربية والذي هو عبارة عن خاتمة الكتاب، مشيرا إلى أن كل تلك النصوص تتميز بسلاستها، وهو ما يعني، في نظر إسماعيل العلوي، تمكن الكاتب، محمد الناصري، وتحكمه، ليس فقط، في المادة، وإنما أيضا في اللغة المستعملة في الكتابة.
وأوضح إسماعيل العلوي، أن كتاب محمد الناصري يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء كبرى، وهي إشكالية التعمير في البلدان المتخلفة، والعلاقة بين ما هو حضري وما هو ريفي أي سكان الأرياف، ثم العلاقة بين السلطة والسكان. وبحسب المتحدث، فقد لاحظ محمد الناصري أن هناك، على الأقل، طريقتين سلكتها الدول عندما واجهت إشكال العمران الفوضوي أو العشوائي، مبرزا ثلاث مواقف في التعاطي مع هذا الإشكال، الأول عندما أراد الحاكمين التحكم في الظاهرة عن طريق إرغام السكان على مغادرة المدن، كما حصل في الكامبودخ حينما قام الخمير الحمر بتدمير المدينة، أو كما حصل في إيران على عهد الشاه إيران عندما أراد مراقبة نزوح العائدين من الأرياف وتنظيم مجيئهم إلى المدينة، وفي كلتا الحلتين، وقعت المآسي، أما النموذج الثالث الذي ساقه المؤلف، وفق إسماعيل العلوي، هو ترتيب ما هو موجود كما هو الشأن بالنسبة للمغرب، وهذا الترتيب، يبقى في نظره، حلا أعرجا، لأنه يحاول التكيف مع الواقع الذي أنشأه الوافدون على المدينة، مع كل ما يترتب عن ذلك من إشكالات اجتماعية كبرى كالصحة وغيرها من الإشكالات الأخرى.
وأضاف إسماعيل العلوي، أن صاحب كتاب “رغبات مدينة” تطرق لكل ذلك بشكل تاريخي، مع إبراز ملاحظات مهمة تبين أن التقاليد التي يشكو منها، المجتمع اليوم، كانت موجودة منذ القدم، وذكر رئيس جمعية سلا المستقبل بوجود فائض سكاني في الأرياف المغربية تعادل ما بين 5 و6 ملايين نسمة، كلهم ينتظرون الفرصة للهجرة إلى المدن في وقت تكون فيه الدولة غير مستعدة لاحتواء هذا الجيش من المواطنين.
من جانبه، قال المؤرخ عبد الأحد السبتي، في حق المؤلف إن “محمد الناصري هو رجل ميدان وتنظير، ورجل نقد واقتراح، ويقوم بعملية تلاقح بين عدة تخصصات”، مشيرا إلى أن كتاب “رغبات مدينة” هو حصيلة أربعة عقود من العمل، داعيا إلى التفكير الجدي في ترجمته لاستدراك تأخر تلقي الكتاب.
وذكر عبد الأحد السبتي، أن محمد الناصري اشتغل على جغرافية الحاضر، وهو يساهم الآن، في كتابة تاريخ الحاضر والجانب المغيب في التاريخ الاجتماعي، وتاريخ البنيات الاجتماعية، ووقف الناصري، يضيف المتحدث، على مساءلة التعامل في سلوك الدولة بين هاجس المراقبة وهاجس التنمية، ونمو برجوازية ترابية أو إدارية، بالإضافة إلى اختزال سياسة المدينة وحصرها في السكن.
وبحسب السبتي، فقد تطرق صاحب كتاب “رغبات مدينة” إلى موضوع “الماء” كمؤرخ، انطلاقا من الوثائق المثبتة وهي الرسوم العدلية، مشيرا إلى أن النزاع حول الماء كان يتم بالأساس، في علاقته بالإنتاج الاقتصادي، والنشاط الديني والعدالة، وفي العلاقة بين المدينة والسلطة، وطرح أيضا، قضية العرف الذي كان موجودا في المدينة، عكس ما كان يعتقد بأن العرف كان محصورا في الأرياف والبوادي، فقط.
وبحسب عبد الأحد السبتي، فإن مفهوم التمدن، عند محمد الناصري، يبقى ملتبسا، لأنه أكثر تعقيدا على مستوى التناول، مؤكدا الحاجة إلى نمذجة مفهوم المدينة، بالإضافة إلى حضور المسار الزمني في حديثه عن مدينة فاس، نموذجا، والتي هي، في نظره، نتاج للجاذبية الزمنية، أو عبر التراكم الزمني على المدى الطويل، كما أن الالتباس الآخر، الذي وقف عليه المتحدث، في مفهوم المدينة عند الناصري، هو تغييب الشبكات العائلية، أو شبكات النفوذ، مشيرا إلى أن ظاهرة الفضاء الحضري، الآن، هو عبارة عن هوية محلية وذاكرة تراث معماري.
وتساءل السبتي، عن كيف يمكن للذاكرة والهوية المحلية، أن تشتغل في أفق مستقبلي، يقوي ويوسع مفهوم المواطنة بدل إعطاء تقوية شبكات النفوذ وشبكات العائلة؟
بدوره، قام الجغرافي إدريس الفاسي المختص في الجغرافية الطبيعية، بقراءة في كتاب “رغبات مدينة” انطلاقا من مقالات تحولت إلى كتاب شامخ، له ثلاث مقدمات وثلاثة خواتم، بثلاث محاور رئيسية، حددها، إدريس الفاسي، في العلاقة بين الأرياف والحاضرة، ثم الحواضر والمجتمع والثقافة، فيما يطرح المحور الثالث إشكالية إعادة تأهيل المراكز الحضرية التراثية، وذهب الفاسي إلى اعتبار المدينة العتيقة التي نعيش فيها اليوم، في الإطار المغربي، مرتبطة بمجموعة من العائلات، مشيرا إلى أن محمد الناصري فضل القول بأن المدينة هي منظومة إدماجية تفضي إلى المواطنة.
بعد ذلك، يتم المرور، بحسب الفاسي، إلى المدينة الجديدة، حيث يصل إلى ما يسميه محمد الناصري “اللوحة المهشمة”، أي الوصول إلى بناء هو عبارة عن “المرقعة” التي تصنع الأغراب، وبالتالي يبدو وكأن تطور المدينة، في نظر محمد الناصري، هو قفزة كبيرة في الفراغ.
وأضاف الفاسي، أن وصف الناصري للمدينة القديمة، على الرغم من التغيير الذي طرأ عليها، لم تتمكن من مواكبة التقدم الحضري، على اعتبار أن المدينة هي البنية الفوقية المطلقة، وأن ما تفرق في غيرها، يجتمع فيها، لكن مع كل ذلك، يقول الفاسي “الكل تقدم، وهي تأخرت عن الركب الحضري، ولم تستطع أن تنقل كل مقوماتها إلى رخاء اقتصادي واجتماعي، كما لم تستطع مواكبة ركب التقدم”.
من جانبه، تطرق الجغرافي موسى الكرزازي، إلى علاقة المدن بالأرياف، انطلاقا من كتاب المؤلف “رغبات مدينة”، مشيرا إلى أن محمد الناصري عالج إشكالية الجهوية ودور المدينة والمدن بصفة عامة، في هيكلتها منذ سنة 1988، وانتقد الدولة التي كانت تخشى تفويت جزء من اختصاصاتها كمركز، لبناء سلطة جهوية. كما عالج مختلف التجارب في البلدان المغاربية الثلاث، مقارنا بين تونس والجزائر والمغرب، فيما يخص هيكلة المجال عبر التقسيم الإداري، وعبر التسميات التي أطلقت على الوحدات الإدارية والتي كانت تهدف إلى مراقبة التراب .
وبحسب موسى الكرزازي، فقد تناول المؤلف مجمل قضايا المدينة في علاقتها بالأرياف، خلال ثلاثة عقود من الزمن، مشيرا إلى أن محمد الناصري أبرز في تحليله العلاقة الثلاثية التي كانت تنظم المجتمع المغربي، وهي المخزن، والقبيلة، والزوايا، وذلك قبل الحماية، ووضع فرضيات حول العوامل المتفاعلة فيما بينها التي أضعفت إشعاع المدينة وقلصت نفوذها، ولم تستطع القيام بنفس الأدوار التي قامت بها مدن أوروبا التي كانت قاطرة للتغيير السياسي والمجتمعي والنمو الاقتصادي.
وفي معالجته لإشكالية العلاقة بين الأرياف والمدن، قال موسى كرزازي إن “محمد الناصري نادى بضرورة سن سياسة فلاحية، وريفية لتلبية حاجيات الفلاحين الصغار”، موضحا أن المدن المغربية اليوم تعكس أزمة عالم الأرياف، وعزا ظاهرة أحياء الصفيح إلى غياب إستراتيجية ناجعة، مما أدى إلى غياب حلقة أساسية في بنية الدولة والتي تهم سلطة محلية تمثيلية منتخبة للسكان، ويعتبر أن انتشار أحياء القصدير هو نتيجة لعدم قدرة السلطات على التحكم في ظاهرة التحضر.
كما انتقد محمد الناصري في كتابه “رغبات مدينة” إهمال المدن العتيقة بمعمارها وتراثها التاريخي، كما تناول، بحسب موسى الكرزازي موضوع الواحات في بعده البيئي، وساق نموذجا على ذلك، سكان القصور بواحة تنجداد، والتي أصبحت فارغة وانتقلت ساكنتها إلى السكن على قارعة الطريق في إشارة التحولات المجالية التي تعرفها الواحة والتي وصفها بـ “الخطيرة”، منبها في هذا الصدد إلى أن الإدعاء بصون القصور عبر ترميمها وإهمال الواحات كتراث ايكولوجي سيؤدي إلى القضاء النهائي على الواحة نفسها.
أما المهندس أوليفي توتان فقد تطرق إلى مفهوم النموذج الحضري عند محمد الناصري، مبرزا كيف ساعد التمدن على نمو وتواجد القطاع الغير مهيكل، بالموازاة مع أزمة السكن والنزوح من البادية نحو المدينة.
من جانبه، طرح المهندس المعماري نبيل الرحموني، مجموعة من الإشكاليات المرتبطة بكيفية قراءة المدينة وتطورها، مشيرا إلى أن نفس المسار ونفس المسلسل الذي حدث مع المدن العتيقة، هو مستمر اليوم مع المدن الحديثة، أو أن نفس ما حدث داخل الأسوار في الماضي، يحدث اليوم خارجها، وأن الفرق فيما يحدث اليوم هو مستويات السرعة، مستدلا على ذلك بمدينة سلا التي انتقلت من 17 ألفا نسمة إلى 55 ألفا في ظرف قياسي.
وفي نظر الرحموني، فإن السبب في البناء العشوائي، هو السلطة في مرحلة تاريخية محددة، خاصة على عهد الباشا “غرنيط” بالإضافة إلى ملاكي “السانيات” الذين سمحوا بالسكن فوق أرضهم عشوائيا، ثم المنتخبون الجماعيون الذين شجعوا البناء العشوائي، وهي أمور قال الرحموني “إنها معروف لدى عموم ساكنة سلا”.
وفي تعقيبه على هذه المداخلات، أوضح المفكر محمد الناصري، أن النقاش حول مفهوم المدينة تبلور، لديه، انطلاقا من معاينته لنمط العيش في مدينة تقليدية، مشيرا إلى ما أثار انتباهه هو أن مشكلة التمدن جاءت بعد فترة من التأمل في هذا المشكل، وذلك بعد مشاركته في ندوة علمية، في ثمانينيات القرن الماضي بلندن حول موضوع المدن العربية الإسلامية، لم يكن حينها، يقول الناصري “مفهوم التمدن متداولا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، على الرغم من وجود هذه الكلمة عند الإيطاليين الذين يربطونها بالمدينة”.
وأضاف صاحب كتاب “رغبات مدينة” أنه لاحظ أن المديني كانت له القدرة على ضبط تسلسل العائلات وتواجدها في المجال الحضري، ثم الشعور بالمكان، بالإضافة إلى قدرته على ضبط الوضعية الاجتماعية لساكنة المدينة، مشيرا إلى أنه انطلاقا من هذه الملاحظات الميدانية حاول بناء مفهوم المدينة، معترفا بوجود خصاص على هذا المستوى، داعيا إلى تعميق البحث والتفكير في هذا المفهوم من أجل فهم التمدن والعلاقة الاجتماعية المرتبطة به.
وحسب محمد الناصري، فإن المهم اليوم، بالنظر إلى التطور الذي حصل في المغرب، هو هل انخرط المديني في قيم التحضر؟ حينها ينتقل من الوضعية الإنسان المديني إلى وضعية المواطن، مشيرا إلى ضرورة معرفة الكيفية التي يقع فيها الانتقال من المدينة القديمة والاندماج الحاصل في المجال الحضري ثم المجال المواطن.
< محمد حجيوي