قدمت فرقة فضاء اللواء للإبداع، خلال الأسبوع الأول من الشهر الحالي بالمركب الثقافي مولاي رشيد بمدينة الدار البيضاء، العرض الأول لمسرحيتها “بويا عمر” للمؤلف عبدو جلال وإخراج بوسرحان الزيتوني وتشخيص كل من جواد العلمي ويونس شارا.
يعد عنوان “بويا عمر” مدخلا ملتبسا لتلقي هذا العمل الفني، ذلك أن الحمولة التي يحملها “بويا عمر” كضريح وكملتقى للمرضى النفسيين والمتشردين والمشدودين إلى الضريح ومدينته المتخلقة حديثا طوعا أو كراهية، والمرجعية التي تلتبس بها الطقوس المرافقة من قبل آل الضريح أو زواره، وما روجه المجتمع عن الممارسات الطقوسية المصاحبة لزيارات هؤلاء المرضى، أو ما روجه الإعلام المرئي على الخصوص.. كل ذلك يجعل من عنوان “بويا عمر” لعمل ثقافي وفني مدخلا مغريا يلجه المتلقي وهو محمل بكل هذه الأفكار والتخمينات. والحقيقة أن مخرج المسرحية بوسرحان الزيتوني راهن على تكسير آفاق انتظار المتلقين الحاضرين الذين عولوا على العنوان لإدراك معاني العمل ودلالاته.
وإذا كان الجمهور ينتظر من المسرحية الحديث عن فضاء بويا عمر، ومعاينة مجانينه واعتقالهم ومرتاديه ومعتقداتهم وزواره، وطقوسهم في وسط الضريح أو حواشيه أو داخل السوق وحوانيته أو مشاهدة مشعوديه وسلعهم، كما هو معروف ومألوف في الأوساط الشعبية وبين المغاربة في تعاملهم مع الأضرحة والمزارات الموروثة والمنتشرة في كل ربوع مملكة الأولياء والصالحين، فإن المسرحية نحت منحى مخالفا باتكائها على حادث إغلاق الضريح من قبل وزارة الصحة ومصير “معتقليه”، واتخذت منها محفزا للخوض في غمار تيمة الجنون وأثرها في حياة الفرد والمجتمع.. فبين سنة 1656 تاريخ إنشاء مستشفى باريس، وتغيير طريقة احتجاز المرضى النفسيين والمجانين، وسنة 2014 تاريخ إقدام وزارة الصحة المغربية على إغلاق ضريح بويا عمر وتوزيع مرضاه على مستشفيات لا تزال في حاجة إلى بركة بويا عمر لتدرك أن الجنون حالات متباينة الأبعاد من الاضطراب العقلي المندرجة في مجال الأمراض النفسية بدل الطب الكهنوتي والتداوي بالسحر والدين.
لقد سمى اليونانيون الجنون بـ “مرض الروح” من هنا كان القبض على تيمة “بويا عمر” للبحث في أمراض روح المجتمع المغربي، والبحث عن المظاهر التي لا يفضحها غير هؤلاء الذين يملكون جرأة الفضح والكشف، من تم توسل مبدعو العمل المسرحي بالحديث على لسان هؤلاء لقول حقيقتهم وتعرية واقعهم، لذلك غاصت تيمات العمل في ضروب شتى من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما فيها تلك التي يصعب تناولها من قبل العقلاء.
وإذا كانت الكتابة عن الجنون ليس هو تمثيل الجنون، فإن نجاح المسرحية أو فشلها تأسس على طريقة لعب الممثلين: يونس شارا وجواد العلمي، فعلى عاتقهما كانت محاولة إعادة صياغة الجنون كتابة بالجسد واستحضاره تمثيلا. من هنا تحول الجنون من واقعة إلى حمولات لغوية، وإلى تمثلات تمتد من المرض العقلي والاختلال النفسي إلى الاعتقال الرمزي كما عبرت عنه التقنيات الموظفة في العمل من ملابس توحي بالاعتقال وتتقاطع مع ملابس السجناء المجرمين المكبلين بالسلاسل والقيود التي تشد هؤلاء إلى الخلف المرير وتشدهم أيضا إلى واقعهم ومعيشهم الأشد مرارة، فضلا عن الشرك الذي نصب لهم كي يمتد استغلالهم، ويطول نهش أجسادهم، ونهب جيوب ذويهم في تجارة بشعة سلعتها جسد الإنسان وروحه، كل ذلك إلى جانب تقنيات الإضاءة وجمالياتها التي أبدع خلالها الفنان ياسين الحور منظومة ضوئية متنوعة في مساقطها وخطوطها والمسالط التي استجلبها لخشبة مسرح مولاي رشيد المتهالكة والفقيرة والمحتاجة إلى التفاتة لصيانتها وتعويض المعطل منها شأن معظم قاعاتنا المسرحية… هي أشكال من الأنوار والظلال شكلت، إلى جانب التقنيات الرقمية التي أبدع خلالها مخرج المسرحية، مدنا مقلوبة تتهاوى عماراتها، وأجزاء بشرية تتناثر هنا وهناك، وأفواها مضاعفة تصرخ وتبوح، وشوارع افتراضية تقود إلى متاهات لا نهائية، كل ذلك وغيره شحن العمل الفني بدلالات كثيفة وسعت من فضاء الخشبة وجعلته ممتدا إلى آفاق متنوعة ومتباينة، وهو ما مكن “بويا عمر” من التحلي بأبعاد معمارية وهندسية يوحي بعضها بأجواء نفسية منفتحة تارة، وضيقة تارة أخرى، وتتراوح بين الدرامي المأساوي والكوميدي، وبين السخرية الساذجة الحمقاء، والسخرية السوداء في أعمق تجلياتها.
في هذا الصدد تجب الإشارة إلى أن مجموعة قليلة من المخرجين المغاربة التفتوا إلى عالم الرقميات أو الرقمنة وعمدوا إلى توظيفها في بعض أعمالهم المسرحية، وإن بشكل محتشم ومتقطع، إلا أن الأمر الذي صار منتشرا في البلاد الغربية واستفاد مسرحيو تلك البلدان المتطورة تكنولوجيا مثل أمريكا واليابان وألمانيا وغيرها كثير ممن توافرت فيها إمكانات تحديث الممارسة المسرحية بفضل التطورات التكنولوجية وانتشار الانترنيت الذي غير عالم الإنسان اليوم رأسا على عقب، فإنه في مجال الفن المسرحي قد تتوفر تقنيات وإمكانات جديدة واستكشافات هائلة لا يزال طموحنا كبيرا كي يلتفت المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي إلى تزويد طلبته بحصص دراسية في المجال، وتوفير أساتذة متخصصين، كي نحقق نحن أيضا الطفرة الرقمية في فننا المسرحي الذي لا يتوانى عن فرض نفسه في الساحة العربية على الأقل.
ومع ذلك يمكن القول إن اللحظات التي استمتع خلالها الجمهور بهذه التقنية منحت بويا عمر ملامح جمالية وعضدت جوانبه الفكرية والثقافية، خصوصا وأنها تواشجت مع موسيقى وألحان عبد الفتاح نكادي المعتمدة في صميمها على آلات موسيقية متنوعة تحمكت فيها بالأساس آلات نفخية مغربية ذات ألحان صوفية شجية ونغمات عالم الجذبة والرقص المنفلت من ضوابطه الأكاديمية، وهو ما وفر للعمل أجواء درامية لواقع تراجيدي امتد عبر المشاهد الأربعة، مستحضرا جحافل المجانين الذين مروا من هنا – من ضريح بويا عمر – حكم عليهم مجتمعهم باللاتوازن والحمق والخروج عن حافة المجتمع وعن الاختلاف عن الإنسان”العاقل”؛ غير أن خطابها اللغوي يمتلك من أسباب الحكمة والتعقل ما هو جدير بطرح سؤال الجنون داخل مجتمعنا، وطرح سؤال أهم هو سؤال أوضاع المعيش اليومي سياسيا واجتماعيا التي كانت سببا في هذا المآل المأساوي وسبل الخروج منه.
ولأن بوسرحان ليس أول مسرحي وظف الجنون في المسرح، وأن هناك العديد من المسرحيين الطلائعيين الذين وجدوا في الجنون والحلم والموت مواضيع بمقدورها سبر أغوار الواقع المتشظي وامتطوا خباياه وخلفياته لرصد مختلف جوانب حياة الإنسان وواقعه منذ غوغول صاحب “يوميات مجنون”، مرورا بعشرات الدراميين الغربيين والعرب، غير أن هذا النوع من التيمات يملك مشروعيته الفنية من جهة، وآثاره الجمالية من جهة ثانية، إذا ما توافرت لفريق العمل القدرة الإبداعية، والاجتهاد التقني والتمثل القرائي لردود أفعال الجمهور..
بين نص عبدو جلال الذي يكتب عن الجنون ونص العرض الذي جعل فيه بوسرحان الزيتوني الشخصية المسرحية تكتب جنونها وفق رؤية إخراجية فيها الكثير من الفكر والتفكير حول حكايات أو خرافات “بويا عمر” تلك الأسطورة المشبعة في الوسط الشعبي المغربي بغير قليل من الماورئيات والإدهاش والرعب.. غير أن طاقم العمل كان حريصا على الحفاظ على الخط الإيديولوجي والفكري لفرقة “اللواء” الذي يحفر في الواقع المغربي، ويتطلع إلى التفاعل مع قضايا المهمشين والحمقى والضعفاء وكل المنتسبين لـ “التحت” والأسفل، ومساءلة الذات والوضع والأفق من أجل خلق الشروط والمتطلبات الممكنة للعرض المسرحي الذي يساهم في تنويع فرجاتنا المغربية، ويدفع بها نحو الحداثة المسرحية التي نسير في أفقها تصاعديا منذ زمن الهواة الأول…
****
المخرج بوسرحان الزيتوني لبيان اليوم: المسرح قضية.. وقضيته لا تقف عند شكل معين بل عند الشكل الذي يخدم القضية
< غابت فرقة فضاء اللواء للإبداع سنوات قبل أن تطل علينا بمسرحية جديدة، لماذا هذا الغياب؟ وما الجديد الذي جعلها تعود بقوة اليوم؟
> فقط هي ظروف ساهمت في تأخر اشتغال الفرقة منذ إنتاجها الأخير: مسرحية «أوسويفان» خلال الموسم 2013 / 2014 وهي المسرحية التي استمر عرضها على مدى سنتين، وتم تقديمها في جولة بأوربا وتونس والمغرب… كما ساهم رحيل الممثل سعيد طنور رحمه الله، وقبل ذلك سوء تفاهمات غير واضحة الأسباب لحد الآن أرخت بظلالها على مسار الفرقة. وقد استطاعت الفرقة التقاط أنفاسها وإزاحة الغبار الذي لحق ببعض دواليب عجلاتها بمشروعها الجديد مع مكونات جديدة وبأمل اختبار القدرة على العودة أيضا.
< ألا تزال فرقة اللواء تحمل نفس التوجه الفكري والفني؟
> هي في أول خطوة في مسار العودة، وأكيد أن التغيرات التي لحقت بكادر التسيير والكادر الفني سيترك أثره في إعادة بناء ملامح الفرقة التي كانت، لكن الأكيد أنها ستكون الفرقة التي تولد من جديد، قد تكون مختلفة، قد تكون في خطواتها أقل مما كانت عليه، لكن حتما محكوم عليها بالتطور وبمواكبة التجارب المسرحية الحقيقية رغم موجة الاستسهال التي أصبحت تحاصر السؤال المسرحي وتسيج حرية البحث والمغامرة الفنية وكثرة المديح المجاني والادعاء . في اللواء، ومثل ما سبق، نحاول أن نواكب الجديد من غير ادعاء بالتميز ومن دون نرجسية. واللواء دائما تعتبر العرض المسرحي مشروعا مفتوحا على التطور ومجالا اختباريا.
< ما رأيك في ترحال المخرجين بين أعمال فرق مسرحية تختلف من حيث التوجهات والقناعات؟
> المخرج الناجح هو من يجد لمشروعه مجالات تحققه، وأن يساهم بأسلوبه في دعم الفرق المسرحية المحتضنة، هذا الترحال / التجوال هو بمثابة ضخ دم في تجربة الفرق. يمكن التمثيل لهذا بتجربة الفرق المسرحية التي احتضنت تجارب مخرجين متعددين أثروا في مسار التجربة المسرحية بمدنهم مثل مدينة الحسيمة، ويمكن التمثيل أيضا بمخرجين من بينهم أمين نسور ويوسف العرقوبي ومحمود شاهدي ولطيفة أحرار وغيرهم ممن أثروا التجربة المسرحية الوطنية في السنوات الخمس الأخيرة.
< في المسرحية الجديدة «بويا عمر» التي توسلت خلالها بالجنون، لماذا هذه التعلة؟ وماذا تريد قوله من خلالها؟
> في «بويا عمر» الجنون هو من تملكني وقدرت أنه باستطاعتي أن أرى العالم من خلاله بشكل أفضل. وأن أقدم عالما فنيا به من الجنون العاقل ما لا أستطيعه بالعقل المجنون. لهذا كنت أجرب ألعابا نارية يمكن أن تحرقني سواء في إدارة الممثلين أو اللعب بالمستويات السينوغرافية أو بتوظيف المابينغ…
هل يتعين علي أن أقول أكثر مما أظهرته، وأكثر مما قاله الظاهر؟ إن عالم اليوم يسوده النفاق وتتراجع فيه القيم النبيلة إن لم نقل تنمحي، وتكثر فيه الرداءات والسخافات، عالم صار أكثر هشاشة وعلى شفا حفرة من التلاشي.. عالم مزيف تكثر فيه الشعارات… ما اقترحته في «بويا عمر» هي الفئات المشطرة التي لا تستطيع أن تستقيم في وقفتها إلا إذا ارتدت لبوس الديكتاتور، وخطاب القوة.
< هل أنت راض عن هذا العمل؟ وما موقعه في تجربة فضاء اللواء؟
> لا يمكن لي إلا أن أرضى عنه وبه، فهو جزء من اختياراتي في مكوناتها البشرية والفنية والتقنية، وهو عرض في بداية تشكله وكثير من عناصره لم تتحقق لحد الآن في شروط الإنجاز التي فرضت على المسرح المغربي…
أما عن موقعه في خريطة تجربة فرقة اللواء، فالأكيد أنه يختلف في الشكل العام وفي الدينامية الداخلية، لكنه يستعيد بعض أبهى الأسس وهي أن المسرح بعد كل شيء، هو قضية، وأن قضيته لا تقف عند شكل معين بل عند الشكل الذي يخدم القضية فيه.
< ما رأيك في الموسم المسرحي المغربي بصيغته الحالية؟
> هو موسم مضطرب، غير منتظم وغير منضبط، لا يوفر ظرفا إبداعيا حقيقيا، ولا يمكن خلاله الإنتاج في حالة من استغراق الإبداع الحقيقي. هو موسم لا أول له لأنه متأخر عن البدايات الممكنة/ وهو لا ينتهي نهاية طبيعية لأنه محكوم أن يشهد عرض المسرحيات في استعجال قبل شهر دجنبر، مع العلم أن كل المسرحيات التي استطاعت أن ترى النور لم تتوصل لحد الآن بأي شطر من أشطر الدعم وجل العاملين بهذه الأعمال يعيشون من غير أجور ولا تعويضات…
بقلم: لعزيز محمد