يبدو أن جيل المحترمين قد انتهى، ويبدو أيضا أن من يعرف القيمة التاريخية للمغرب، البلد الجار الذي ناصر الثورة التحريرية لم يعد لهم وجود داخل دواليب الحكم في الجزائر، وأن من آلت لهم المسؤولية حاليا، هم ذلك الجيل الذي تربى على خطابات الراحل هوراي بومدين عن المغرب بعد إسترجاعه لصحرائه، تلك الخطابات التي كان مِلؤها أحقادٌ وأخطاء كارثية لا معنى لها في حق جار التزم دوما بسياسة حسن الجوار والصداقة طبقا لمضامين وروح اتفاقية إفران، تلك الأخطاء التي مازلنا ندفع ثمن تبعاتها إلى يومنا هذا!
كان حريا بقناة الشروق التي تدعي أنها تنشر القيم، أن تفكر جيدا قبل الإقدام على خطوة التهكم والسخرية ضد شخص الملك، حفيد الأشراف الذين وقفوا دوما إلى جانب بلدنا ودفعوا الغالي والنفيس نصرًا لراية كفاح أجدادنا وآبائنا ضد الاحتلال الفرنسي، بل وأُخذت أراضيهم عقابا لهم على نُصرتنا.
كان حريا بقناة الشروق ألا تنشر الشرور، وتتذكر أن الملك محمد الخامس طيب الله ثراه، الذي يحمل إسمه أكبر شوارع الجزائر العاصمة هو جد من تهكمت على جنابه الشريف، في برنامجها الساقط بحضور سياسيين وإعلاميين يستحقون وصفهم بقليلي الحياء وعديمي البصيرة، وغير المبالين بضرورة الحفاظ على علاقة الشعبين ببعضهما البعض، وعدم الوقوع فيما يجلب المتاعب للوطن، ويلعن المستقبل والمصير المشترك.
محمد الخامس، يا قناة الشروق، هو من وعد فوفى، بعد رجوعه من المنفى، ونيل استقلال المغرب، فألقى خطابه الشهير آنذاك إلى شعبه، موجها له بأن يتضامن مع شقيقه الشعب الجزائري، وأن يستقبل المهاجرين الجزائريين وأن يُحسن إليهم، والتاريخ يشهد أنه أصدر تعليماته رحمه الله، بألا يتعرض أحد لمهاجر جزائري مهما كان الأمر، فكانت لهم الحرية التامة والامتيازات، ولكِ أن تسألي يا قناة الشروق عموم الجزائريين ممن هم على قيد الحياة، ممن عاشوا تلك الفترة في المغرب، خصوصا في مدينة وجدة قلعة الثوار، أيام معركة التحرير ضد الاستعمار.
محمد الخامس، يا قناة الشروق، هو من قال في حقه الرئيس الراحل أحمد بن بلة رحمه الله، عندما استقبله في مدريد شهر أكتوبر من عام 1955، أنه تفاجأ بوعوده السخية لدعم الثورة التحريرية، فأثناه عن إخراج الورقة التي كانت في جيبه، والتي كَتب فيها عشرين نقطة، كان يود أن يقدمها للملك الراحل بخصوص طلب دعم المغرب للثوار الجزائريين، ولكِ أن تراجعي يا قناة الشروق برنامج قناة الجزيرة “شاهد على العصر” الذي قدم فيه الرئيس الجزائري الراحل شهادته في حق ملك المغرب!
لقد نسيت يا قناة الشروق، ما حدث في مدن المغرب وخصوصا مدينة مكناس، عندما قام الاستعمار بقرصنة الطائرة المغربية التي كان تقل قادة الثوار نحو تونس شهر أكتوبر 1956، يومها خرج المغاربة عن بكرة أبيهم غاضبين ومنددين بما حدث لعظماء الثورة التحريرية، في مظاهرات عارمة، نُصرة لقادة ثورتنا الكبار، وقام العديد منهم بعمليات انتقامية، وأذكرك بأرشيف تلك العمليات التي شهدتها مدينة مكناس والتي أدت إلى مقتل 53 فرنسيا، مما جعل المستعمر يتريث في التفكير بإيذاء قادة الثورة نظرا لشعبيتهم الجارفة وسط الشعب المغربي، خصوصا وأنه كان يتواجد في البلد آنذاك ما يقارب 330 ألف فرنسي، وكان للملك الراحل محمد الخامس طيب الله ثراه، الدور الحاسم في حماية قادة الثورة وهم في سجنهم، وأستحضر هنا ما قام به المجاهد الأستاذ الراحل عبد الرحمن اليوسفي رحمه الله في الدفاع عن قادة الثورة المسجونين، فلُقب بمحامي الثورة التحريرية.
لقد نسيتِ يا قناة الشروق، أن الاستعمار ساوم الملك الراحل محمد الخامس في أراضي المغرب التاريخية فعرض عليه إرجاعها مقابل التخلي عن دعم الثورة التحريرية، لكن رده كان بالرفض المطلق، واختار رحمه الله الوقوف إلى صف الجزائر الجزائرية، ولك أن ترجعي إلى الأرشيف الذي أضعه في هذا المقال متجسدا في مراسلة بين الملك الراحل والرئيس الفرنسي شارل ديغول شارحا فيها هذا الأخير للملك، أسباب قيام فرنسا بالتجارب النووية الثانية في الصحراء، والتي رد عليه محمد الخامس رافضا لتلك التجارب ومذكرا له بأنها الأراضي التاريخية للمملكة، فلماذا راسل ديغول ملك المغرب إن لم تكن تلك الأراضي فعلا مغربية؟! هذا هو التاريخ الذي لا يمكن تغييره.
لقد نسيتِ يا قناة الشروق، أن الملك الحسن الثاني أكرم الله مثواه أمر بإصدار جواز سفر مغربي ديبلوماسي لعبد العزيز بوتفليقة، فانتقل به إلى فرنسا والتقى قادة الثورة المسجونين، كل واحد على حدة، وغاية تلك الزيارة كانت اختيار الشخصية التي تناسب أركان جيش الحدود في وجدة، بقيادة الراحل هواري بومدين رحمه الله، غير المعروف آنذاك وسط الجماهير، ذلك الاختيار الذي كان حاسما في سيطرة جيش الحدود على مقاليد الحكم والانقلاب على الحكومة المؤقتة صيف 1962 نظرا لشعبية الرئيس الراحل أحمد بن بلة رحمه الله، ونظرا للدعم القوي الذي تلقاه جيش الحدود من المغرب ملكا وحكومة وشعبا، وهذا ما يؤكد أن النظام الذي استولى على حكم الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، كانت نواته في وجدة شرق المملكة.
إن إساءة قناة الشروق لشخص جلالة الملك محمد السادس، ضرب لعمق التاريخ المشترك وإشعال لنار فتنة، يريد من خلالها النظام الحاكم في الجزائر، استفزاز عواطف الشعبين، وجرهما إلى مستنقع الأحقاد الذي عمل على تجفيفه الوطنيون المخلصون في البلدين، أيام معارك التحرير ضد المستعمر الواحد، الذي مارس لعقود طويلة سياسة فرق تسد بينهما منذ اتفاقية لالة مغنية سنة 1845.
ما أقدمت عليه هذه القناة، هو ترجمة لمخطط جديد لنظام الحكم، الغاية منه دفع الشعب الجزائري لاحتضان الصراع الذي يديره مع المغرب كأمة وليس كنظام حكم فقط، لأن ملف الصحراء المغربية هي قضية أمة بالنسبة للمغرب، أما في الجزائر فهي قضية نظام، وهنا يكمن الفرق.
لكنه سيفشل في مسعاه، فاتساع الهوة بين الشعب والنظام التي ازدادت، أدت إلى وجود أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم نظرا لغياب نظام حكم شرعي مستمد من الإرادة الشعبية، مما جعل الجبهة الداخلية ضعيفة، وأكبر دليل على ذلك، تلك المقاطعة الشعبية الكبيرة للاستفتاء على الدستور شهر نوفمبر الماضي، وهنا يجب الإشارة إلى تخوف النظام من عودة الحراك الرامي إلى إنهاء عسكرة الدولة وإرساء دولة مدنية ديمقراطية في الجزائر.
كل هذه عوامل تجعل احتضان الشعب لذلك الملف، ولما يروج له النظام من سابع المستحيلات، خصوصا وأننا نعيش عصر الإعلام المفتوح والبديل، الذي مكن المتتبع من عدم التأثر بالبروباغندا ومما يروج له إعلام السلطة بدون وجه حق، وتتجلى لنا رؤية ذلك في تعاليق الجزائريين الساخرة حول الأخبار المغلوطة التي تنشرها القنوات التلفزيونية المعتمدة عبر صفحاتها الفيسبوكية.
وبالعودة إلى ما أقدمت عليه قناة الشروق، في برنامجها الساقط الذي أساء إلى ملك المغرب، فقد كانت الغالبية العظمى من تعاليق الجزائريين في صفحة القناة بالفيسبوك، ساخطة ومستنكرة لتلك السقطة، واصفين تلك الإساءة بالاعتداء السافر على الشعب المغربي وعلى رمزه، وبأنها فتنة يجب إيقافها.
إساءة قناة الشروق، تشكل أيضا ترجمة لردة فعل نظام حكم مهزوز تعرض لهزائم تاريخية مؤخرا بداية مما حدث في معبر الكركرات، الذي ثبت بما لا شك فيه، أنه كان وراء إرسال أولئك الذين قاموا بغلق الطريق الدولي، وهذا ليس بغريب عن هذا النظام، الذي ظن أنه قادر على غلق الحدود البرية بين المغرب وموريتانيا، مثلما غلق الحدود البرية بين الجزائر والمغرب لأكثر من ربع قرن قاطعا للأرزاق والأرحام!
ثاني الهزائم كانت الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، والتي شكلت له صدمة كبيرة وغير متوقعة خصوصا وأن هذا القرار شكل اختراقا ديبلوماسيا تاريخيا للمغرب سيكون له الأثر البالغ مستقبلا على الملف وعلى الخريطة الجيو إستراتيجية للمنطقة.
ثالث الهزائم تأييد غالبية الدول العربية والإسلامية للمغرب في قضيته العادلة، مما جعل نظام الحكم في الجزائر معزولا عن محيطه الإقليمي، رغم محاولاته ربط الملف بالقضية الفلسطينية التي يتاجر بها أمام الشعب بشعارات غير مترجمة على أرض الواقع!
رابع الهزائم على المستوى الإفريقي، فبعد رحلات وزير الخارجية صبري بوقادوم المكوكية إلى عدة دول إفريقية سعيا وراء أهداف لا علاقة لها بمصلحة الوطن العليا، لم يتضمن البيان الختامي للقمة الـ 34 للاتحاد الإفريقي، أي إشارة لملف الصحراء المغربية، وهذا تأكيد على انتكاسة ديبلوماسية النظام في تدبير الملف، وتبني الاتحاد الإفريقي لنهج جديد عنوانه الواقعية والمصلحة العليا والمشتركة لشعوب القارة، وهنا يجب الإشارة إلى التصديق على مشروع غاز نيجيريا المغرب والبدء في إنجازه، هذا المشروع الذي سيغير من واقع دول غرب إفريقيا بشكل كبير.
خامس الهزائم، ذلك الفشل الذريع في إثبات وجود حرب بالصحراء المغربية، عبر الترويج لبلاغات التنظيم الانفصالي العسكرية اليومية، والتي أخرجها من أرشيف سنوات السبعينات والثمانينات لإعادة نشرها، ظانا منه أن ذاكرة غيره ضعيفة مثل ذاكرته، هذه البلاغات التي لا يتم تدوالها من طرف وكالات الأنباء الدولية، والتي أصبحت تثير سخرية العالم، خصوصا بعد أن طعمها التلفزيون العمومي الجزائري ببرنامج مفبرك عن منطقة المحبس استعان فيه الصحفي المغمور والهاوي بمشاهد من حرب اليمن! فهل يعقل وجود حربٍ دون صور حية ونحن في زمن التكنولوجيا الرقمية؟
الشعور بالهزيمة ليس الإحساس الوحيد الذي جعل نظام الحكم في الجزائر يعيش الهيستيريا المعبر عنها عبر أبواقه، بل هناك أيضا غيرة مرضية مما يقوم به المغرب على جميع الأصعدة، خصوصا على مستوى الاقتصاد، فالمغرب نجح في إرساء صناعة السيارات التي أضحت تشكل المصدر الأول للعملة الصعبة، وهنا يجب الإشارة إلى محاولة النظام في الجزائر عرقلة تلك النجاحات باعتراف الوزير الأول المسجون عبد المالك سلال أمام القاضي في محاكمته الأخيرة حول قضية ملف تصنيع السيارات، والمتورط فيها أيضا الوزير الأول المسجون أحمد أويحي.
المغرب نجح أيضا في دخول نادي صناعة الطيران عبر استقطاب استثمارات هامة من كبريات الشركات العالمية، ونجح في تبوء مرتبة متقدمة ضمن الدول التي لها اقتصاد صاعد وبيئة استثمارية محفزة، ونظام بنكي وضريبي متطور.
المغرب نجح بشكل كبير في تسييره لأزمة جائحة كورونا، وتمكن من توفير اللقاحات لمواطنيه، مما جعله يتواجد ضمن الدول الأولى التي بدأت حملة التلقيح.
أما نظام الحكم في الجزائر، فقد أبان عن فشل ذريع على مستوى الاقتصاد بجميع قطاعاته رغم ما يتوفر عليه البلد من إمكانيات، ولم يتمكن من القضاء على ظواهر الندرة في السلع، ولم يطور نظامه البنكي ولا الضريبي، واعتمد الغلق المطلق لحدوده كحل يواجه به جائحة كورونا مما أثر على مصالح المواطنين وجاليتنا بالمهجر، وليس هذا فحسب فحتى تسييره لحملة التلقيح تثير الاستغراب والعجب، فكانت الفضيحة الأولى، جلبه للقاح الروسي بثمن خيالي باعتراف رئيس لجنة رصد ومتابعة فيروس كورونا حتى تنطلق الحملة في نفس توقيت إعلان المغرب بدء حملة التلقيح، فأرادها فقط عملية استعراضية أكد فيها أن همه الوحيد هو إطلاق حملة التلقيح وفقط! والفضيحة الثانية تلك الأرقام التي يعلن عنها بخصوص عدد الأشخاص الملقحين والذي لا يتجاوز العشرين شخصا يوميا في بلد عدد سكان تجاوز 43 مليون نسمة.
هذه هي الأسباب وراء الحملة الإعلامية ضد المغرب، التي تعبر عن ردة فعل يائسة من طرف نظام فاقد للشرعية جبهته الداخلية متصدعة، منهزم على المستوى الدبلوماسي وفاشل على المستوى الاقتصادي، وفوق هذا مصاب بغيرة مرضية من جار تعامل معه منذ عقود بإحسان واحترام والتاريخ شاهد على ذلك.
لقد نسوا، يا جلالة الملك.. فالمعذرة لجنابكم الشريف باسمي وباسم كل جزائري وجزائرية يكنون لكم الاحترام والتقدير، ويؤمنون بأن المغرب بلد جار وشقيق، وأدعو الله أن يحفظكم في حلكم وترحالكم ويسدد خطاكم، وييسر أموركم لما فيه خير للمغرب ولفضائنا المغاربي، وأن يجازيكم خير جزاء على تعاملكم الحكيم مع بلدنا، رغم الأخطاء التي ارتكبها حكامه في حقكم وفي حق المغرب الحبيب اللهم آمين.
> بقلم: وليد كبير
كاتب جزائري (عن موقع الدار)