صدرت رواية “أوراق اللعب” للشاعر والكاتب المغربي حسن المددي، عن المركز الثقافي للكتابفي طبعتها الأولى سنة 2019.
وهي رواية ذات حبكة محكمة، أبان كاتبها عن قدرة فائقة في مراوغة القارئ وجعله يتابع الأحداث إلى نهايتها، وقد ساعده على ذلك تمكنه من اللغة وأساليب السرد وتقنياته حد الإدهاش. وتجلى ذلك أيضا في تقنيات تحريك خيوط الحكاية وتوجيهها لخدمة غرض البوح والكشف، وإبراز حقائق أحداث الرواية، وهي حكاية واحدة أفلح السارد في نقلها من وجهة نظر ثلاث شخصيات تتناوب السرد وتشد بخناق القارئ لتوهمه بواقعية الأحداث، والانطلاق من الذاكرة والخيال لتأليف أحداث واقعية على لسان شخصياته، أبطال الرواية وهم:(المحامي جلال البنداري والعقيد مصطفى الركباني، والضحية الأستاذ عباس الوفي)، وتحويل (المروي) إلى وقائع، من حيث هو بنية من المتواليات السردية، تشكل في عمقها رواية داخل رواية، ويفرض هذا التداخل للمحكي توظيف تقنيات السرد الروائي، وسنحاول في هذه المقالة التعرف على مكونات البنية السردية لرواية ” أوراق اللعب” والتقنيات الموظفة فيها.
المروي والمروي له في “أوراق اللعب”:
تتناول رواية “أوراق اللعب”، قصة يغلب عليها الطابع الإنساني، تعالج قضية الاختطافات التي ينفذها نظام عسكري دكتاتوري ضد مواطني دولة مجاورة له، حيث يجند ميليشيات تابعة له للتوغل في التراب الوطني لتلك الدولة الجارة عن طريق التسرب من الحدود المشتركة بينهما واختطاف مواطنيها المدنيين والعسكريين، بدافع من حقد دفين اتجاه المختطَفين وبلادهم. الأمر الذي يفسر المغالاة في التعذيب والتعنيف وممارسة السادية قصدجعل المختطفين يعترفون بأشياء لا وجود لها إلا في عقول الجلادين. ومن بين هؤلاء الضحية “عباس الوفي” الأستاذ الذي كان من بين المختطفين في قرية نائية على الحدود بين البلدين، والذي كان يهب جسده الضعيف للجلادين الذين يتفننون في تعذيبه. لكنهم لم يستطيعوا انتزاع كرامته، وهو الشيء الذي ذكره لنا العقيد مصطفى الركباني، أو الذئب المدعو “أمانيتا” مدير معتقل الجحيم “برج القمر”، والذي كان يعذب المختطفين بكلاليب وكماشات ينتزع بها أظافرهم، أو عمليات إعدام الضحايا واستئصال أعضائهم الحيوية وبيعها في لمافياتتجارة الأعضاء البشرية، غير أن العقيد مصطفى الركباني، استفاق ضميره أخيراً، فقرر الهروب من المعتقل واللجوء لدولة غربية بتزويره لجوازات سفره، وفضح هؤلاء الجلادين بعد اكتشافه حقيقة اختطافه من قرية “الركبانة” بلده الأصلي، و هو نفسه بلد الضحية عباس الوفي بطل الرواية.ولكي يكفر عن جرائمه عمل على كتابة اعترافاته، كما أمر الضحية عباس أن يدون شهاداته على أوراق اللعب، ووضعها في صندوق تمهيدا لتهريبها ليطلع عليها الرأي العام عن طريق المحامي والحقوقي المعروف جلال البنداري، لمحاسبة المجرمين المتورطين في هذه الانتهاكات ضد الانسانية.
الضمير الموظف في رواية “أوراق اللعب”:
يلفت السارد انتباه القارئ بقدرته على التمويه في اللعبة السردية، وتعرية الأنا للآخر بما يشبه أسلوب التقديم والكشف، لإماطة اللثام عن أجزاء حكايته وأبعادها على نفسيات أبطال روايته.
لذلك فقد وظف ضمير المتكلم ” أنا” للحديث على لسان شخصياته، ساعدته في ذلك قدرته على تقمص الأدوار واللعب بالأحداث، وتمويه القارئ بحسب زاوية النظر التي ترى منها كل شخصية الوقائع، وكلما توغل السارد في الحكي، كلما اتضحت الرؤية للقارئ، وانكشفت بعض الأجزاء من حكاية العقيد مصطفى الركباني، قصة أوراق اللعب.
وقد ساعد الضمير الموظف في النص المحامي على عرض قضيته بالتسلسل، باعتبار أنه أحد مؤلفي أوراق اللعب، بالإضافة لما كتبه العقيد من اعترافات وما دونه الضحية عباس من شهادات ومعاينات لأساليب التعذيب المستخدمة في معتقل برج القمر. والذي كان مسرحا للصراعات السياسية الدائرة بين بلدين، وقع الجيران ضحاياها بحكم التقارب بينهما، فلم يسلم الضحية عباس من تعنيف وسادية العقيد مصطفى الركباني.
تقنية الاسترجاع في رواية ” أوراق اللعب”:
وظف الكاتب تقنية الاسترجاع للكشف عن خبايا وأسرار قضية أوراق اللعب، وقد ساعدته خبرته الشخصية، لتعرية بعض الحقائق في الرواية، ولأن طبيعة الأحداث مستقاة من واقع الشخصيات، التي عاشت الأحداث، فمن الطبيعي أن يكون أسلوب التذكر واستحضار (المروي)، التقنية المناسبة لإظهاره، وقد اتضح ذلك في صفحات متفرقة من المتن السردي الروائي، يقول :” مازلت أغوص في عتمة ذاكرتي المكدودة، وأستعيد ذكرياتي المتقيحة مع عباس الوفي وغيره من الأشقاء الذين قادتهم أقدارهم البئيسة إلى الوقوع في يدي..”. ص25. من أوراق اللعب.
ويقول أيضا على لسان عباس الوفي:” لا بد أن أحاول استحضار بعض ما علق بذاكرتي، سأحمل كل من يقرأ اعترافاتي هذه إلى فضاءات الأحداث، ليعيش معي لحظاتها فور وقوعها. سأعيش معه مجددا كل ما قاسيته خلال تلك السنوات التي صارعت فيها الموت في قبري؟… ” ص: 92.
تداخل المحكي أو لعبة الدمى المتحركة في “أوراق اللعب”:
تبين الرواية قدرة السارد على الامساك بتلابيب القارئ، وأخذه معه في رحلة سفر، لاستكشاف عوالم مجهولة، في خبايا الذات البشرية، وقد تأتى له ذلك عندما اعتمد تقنية ( تداخل الحكي)، أو حكاية داخل حكاية، وهي عبارة عن متاهة سردية لا نهاية لها، تشبه الدمى الروسية المتحركة أو دمى “الماتريوشكا” وهو نموذج معماري غربي له قدرة عجيبة على جمع الحكايات الصغيرة داخل أخرى أكبر منها، وهذا التداخل يساعد السارد على تنظيم أفكاره وبسطها للقارئ، دون أن يفقد السارد القارئ تركيزه، أو يشتت انتباهه، وهنا يحضر جانب التخييل بقوة، لجعل القارئ يقتنع بواقعية الأحداث وتسلسلها وترابطها في مخيلة السارد. ويمكن القول إن هذه التقنية الجديدة، ساعدت الكثير من الروائيين العرب على تنظيم فصول رواياتهم، التي لولا وجودها، لانكشف النظام التقليدي العادي، الذي سيطر على الرواية العربية طيلة النصف الثاني من القرن الماضي.
شعرية اللغة في “أوراق اللعب”:
لا غرابة أن يوظف الكاتب المغربي حسن المددي اللغة الشعرية في كتاباته، فهو شاعر متمرس، خبر لغة الشعر وأحكمها، وله مجاميع شعرية صادرة، تدل على تأثره إسوة بغيره من الشعراء بفترة ما بعد الكلاسيكية الجديدة، وهي مدرسة جمعت بين مضمون القصيدة التقليدي وشكلها الحديث.
والملاحظ على رواية ” أوراق اللعب” طغيان التشبيهات والمجازات، وهي كثيرة مثل قوله: ” كلمات تذوب كمدن السكر”، ” حروف تتطاير كالفراشات الجريحة”. والمجازات في قوله:” أسطرك حلما، وأسطرك ألما”، ” نلتهم آمالنا المؤجلة”.
وتكمن وظيفة هذه التشبيهات والاستعارات في تعبير السارد عن مكنونات النفس والوجدان، وخدمة جمالية النص الروائي. وقدرة القارئ على تحويل المعنى المجازي لهذه الجمل وتأويلها لفهم معانيها الأصلية.
المصادر:
رواية أوراق اللعب، حسن المددي، عن المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى 2019، الدار البيضاء، المغرب.
< بقلم: الحسين ايت بها