حين يندس الظلام

تأخذني تأملاتي اليوم إلى ذالك العهد من سنوات الحرمان، والضياع، والغربة، وأي غربة  تلك التي لم أعرف  كيف وصلت إليها في ظل هذا السكون الذي يغمرني، بنشوة عجيبة ولو ممزوجة بشجن وألم دفينين. 
و لن أجدني، ولو بعد حين في سكون ذاك  الليل، ولا في غياهب الكون  .
وأنا من أنا؟
ولست سوى نور يندس في الظلام، ليتسلل في الجهات الأربعة، وأنا البعد الخامس، والسكن الرأسي في اقواعد العشر للذات. 
 وكم وبخت نفسي رغم أني أعرف أنها خيال سرعان ما تعلن رحيلها في ظلمة الصمت الذي اكتنفني منذ زمن ليس بقريب لتسعى إلى الاندثار؛ أتدارك نفسي وأحمل أوزار الأمس لألحق بها ولكن لا جدوى من ذاك فقد فات الأوان وتخلت الذات عن الآنا ..

أتمايل على الناي حين يناجي الغياب وأتعمد بماء الكبرياء كلما راودني الحرف عن نفسي كسيف في غمد عميق. 
أبحث من خلال ضياعي على بعض  السكينة والسلام.. أحاول أيضا من خلاله أن أبعد نفسي عن هذا العالم المرير.. أن أعيش في خيالاتي وعالمي الخاص.. أن أتنصل من هويتنا بل هويتي.. أن أنتصب أمام سطوة  الوجل، ولا أنبس ببنت شفة، ولا أقدر على الحراك، أمدُّ يدي لأصافحني وكم مرة كنت أحلم أن أراقب آثار خيالي من بعيد أرفض مدَّ يدي لتعانق حلمي الذي طال وكم وبخت نفسي رغم أني أعرف أنه خيال لا أكثر ولا أقل. 
سرعان ما تعلن الأوقات رحيلها فتتساقط الأوراق في ظلمة الصمت الذي اكتنفني منذ زمن ليس بالقريب، أتدارك نفسي لألحق به ولكن لا جدوى من ذالك فقد فات الأوان.
لأننا نعيش في هذا العالم بشخصيتين نعم شخصيتين وذكريات لم يبق من أثرها غير لقطات خاطفة وأدوار قيست علينا وأخرى حاولنا أن نبلغها وما استطعنا ولن نستطيع حين يخيم الليل وينفرد كل منا بنفسه يناجي خلوته وربما وحدته ولو وسط الملايين يحاول ونحاول حينها أن نسترجع شخصيتنا الكامنة الخجلة لربما أو الخائفة من الاصطدام بصخور الواقع أو بصور في وريقات منسقة ونظرات تفاؤل لمستقبل كنا نتمناه مزهرا نحاول أن نعيش في سراب خيالنا.. خيالنا الذي يحلم دائما ويسبح في ملكوت السماوات.. ويا لشدة سذاجتي آنذاك فتتدحرج على وجنتي دمعة عذراء ترثيني وتواسي ما أحسه من جفاء.
هكذا تأتي الحياة، بدايتها صرخة وتتواكب الأحداث فيها، حتى نصبح على دراية بكل ما يدور حولنا، نهرب من واقع إلى حلم شريد، ونبني جسوراً ما بين الفرح واليأس فوق انتفاضة مع النفس ونحاول البحث عن الذات في الزمن الخاطئ، تتوارى النكسات فيها وتتداخل البسمات معها، لتصنع معنى حقيقة الصدق، عيون مبتسمة تخفي وراءها معاني مجهولة الملامح، لربما نتمنى وجود فرح في حياتنا، وبالقناعة نملك أسمى معاني الفرح مع الزمن، ونصنع جسوراً ما بين الفرح والفرح فوق بحار اليأس. 
فهكذا تأتي الحياة بكل ما فيها.. بمواقف يحكمنا الصراع فيها ويجعلنا ما بين الوهم والحقيقة عاجزين عن معرفة الصواب، أو ربما صعوبة الاختيار.
أغمض عيني ليمر شريط الذكريات سريعا جدا أسرع مما ظننته لكن العودة منه هي كانشقاق عن واقع ممزوج بأحلام جميلة يخاف من أن نتذكره لكننا نتمنى لو بقينا فيه نتمنى لو نحيا فيه على الدوام..
نقبل الماضي الذي نستنبطه ونحِنُّ لعيشه أو نحلم بمعايشته لنشعر بالسكينة التي ما بعدها سكينة الشعور بنك مالك الدنيا.
رؤيتنا للأمور بمنظور أخر بنظرة كلها أحاسيس ومشاعر نبيلة ألغينا فيها العقل الواعي وأدركنا ساعتها  أننا تجاوزنا  أبعاد المعقول وسبحنا في أبعاد أخرى.. وأصبح يبدو لنا كل شيء ممكن وكل شيء مباح لا صعب ولا ممنوع.. ساعتها فقط  يلهمنا الله بزرع الأمل في أنفسنا وبأن رحمته واسعة شاسعة شساعة ما صنع وأكثر من ذلك..
لندع إذن الابتسامة مرسومة على ثغرنا الحالم تنطق عما عجز عن البوح به تلك الأنا اليتيمة التواقة بداخلنا وكم هو صعب أن ترى ما لا يراه غيرك رؤيا متفردة في دنيا أنت فيها وتحس بما لا يحسه سواك كالقتيل الغارق في حبر القلم المحموم.
أقف أمامي مجردة من كل قناع أرتديه وعارية من كل زيف منذ أن التقيتني وألقيت بخوفي كله وراء ظهري فقررت جعل محميتي هي حتفي وخارطة ضياعي وحاولت التآمر مع القدر لكن دون جدوى فالقدر يبقى قدرا.
أحيانا تنوب عنا كلمات الآخرين وتجعل منا حاضرا وليس فقط ذكرى في مذكرات مرهقة ومتعبة ومؤلمة. 
هناك فقط حيث لا مكان إلا لكلماتنا أملأ الفراغ بداخلي كي لا أظل حبيسة الضياع رغم كوني أخشى إطلاقها فأخسر وأمسكها.. متنكرة بالنسيان متجلبة بالهذيان فعلا شدتني تلك الفكرة فما ذنبي إن كان الناس قد ولدوا موتى.. أناس يحتمون من الموت بالقلم ليحدثوا الناس عنا وعنهم وعن  أنفسهم وعن نبض الحياة حين يجيب..
هل نكتب لننسى أم نكتب لنتذكر أكثر… حين يتنفس الصبح بالأمل دون أسر أو ضيق؟ وننادي بأسمائنا أم لأننا لم نعثر بعد على من نصادقه بكلامنا وننثر له ما ينبض في كياننا وما يدور في فضائنا نهارا… ليجتمع في مخيلتنا في حلكة الديجور ويطلق الأماني تطير بأجنحة الحرية. 
ويا أسفاه لمن نشكي آهاتنا… وكل منهمك بآهاته استرجع الذكرى حين يجري النهر مع الشروق.. 
أتوارى مني وراء كلمة.. أتثاقل علي بكلمة… أكتبني في كلمة… وأقرؤني من كلمة كلما نبضت حروفي لوجودي  فتحيا وتئن لفراقي فتذبل وتموت.. ثم تصير بلا  قيمة أو معنى..
فلا تدعني أيها الزمن أختنق وسط كلماتي العاجزة.. ولا تتركني لأتيه بها… فما أسوأ للمرء من فقدان نفسه.. إلا فقدانها.. 
أنا كما أنا …
يخفق قلبي لوجودي ولا خوف مني علي.
حين أعلم أنني لست لي..ولا أنا خالصة لذاتي.
لا أملك مني سوى قلبي اليتم.. ولا يملك منه سوى ظله المجنون الذي رميته ورائي.
بت شاردة.. فطبّٓعته بطباعي وألقيت عليه بظلي حتى كدت أن أفقدني. 
كلما ارتقبت الليل فشردت الذات ….
لماذا نكتب..؟
والقلم سفاح يرتكب جريمة بين القارئ والكاتب ولمن نفتح قلوبنا… وأقنعة الغدر باتت خطرا تهدد حياتنا من كل حذب وصوب  ..
كثيرا ما لامست جوانب حياتي.. فشعرت وكأنها بحر أصارعه والبحر مهما توالى الدهر غدار …
تأملت وجوه الخلائق.. فرأيتها كأنها وحوش مختبئة تحت أقنعة المصالح.. في السراء ابتسمت وفي الضراء عبست.. قررت ان أرحل بقلبي الحزين.. إلى عالم ليس له مثيل… لأكون بعيدة عن الغدر.. سأصمت أمام الأرواح المزيفة لأحاكي الأحرف والسطور.. وأشكي لصفحاتي آلامي.. لينزف قلمي بالتعب والأنين.. سأمسك سلاحي لأدون آهاتي.. حتى أنهي مأساتي في أقرب حين.. لأغدو عملاقة بين الملايين حين تنطفئ الأنوار عن الدروب.
لنبدأ معركة الأنانية بيننا وبين غيرنا وتتحول الوديان إلى فروع، لننتهي برفع الراية البيضاء، ونطالب بأن يفهمنا أحد، ولو تفكرنا كم هو جميل بأن نفهم الآخرين بعيداً عن سذاجة الأنانية، سنصل إلى مسار الواقع ونقبض الأمور من رسنها، ونداري مرارة الطريق بكل فخر وثقة…..
لربما المشكلة تكمن في نهاية الطريق أو منتصفها، لكن أولى العقبات تولد من تلقاء أنفسنا، ليتحول خوفنا من مجرد خوف إلى مشكلة، ونصنع بعد ذلك مشاكل لنا ولغيرنا، وندرك نفسنا في الفرصة الأخيرة…. الحياة تمنحنا فرص كثيرة لكننا لا نشعر بقيمتها ونضيعها في تشتت فكرنا، ولا ننهض من السكون إلا في اللحظات الأخيرة أو بالأحرى الفرصة الأخيرة، ومن تمنحه الحياة الوقت الإضافي هو إنسان أجاد موازنة العقل بالعاطفة أو ربما وسط بينهما في إطارات الحياة المختلفة ومزدوجة الجوانب، التي تحتاج إلى تفكير منطقي ذي اهتمام مشبع من القناعة والعقلانية بعيداً عن تطلعات القلب المتعلقة بالعاطفة الضعيفة في أغلب الأحيان التي ترضخ المرء لغير المعقول…..
وهكذا تأتي الحياة.. نبدأ بتهجئة الحروف وننتهي بترتيب الكلمات، ويخرج منا من يصنع له المجد ويخرج منا من يترك صفحاته فارغة بدون تاريخ، وأحياناً نسعى متقمصين شخصيات بقلب صادق مع النفس ومع الغير، لكننا عندما نعلن انزواءنا في زوايا الألم يصير الطريق مبهما، نخوض الحياة في بحار اللاوعي، ونهرب من أنفسنا أولاً، متجاهلين ما يدور حولنا محاولين الانصياع لأحكام يمليها علينا الاستسلام أو حتى الشر، وبفكرة تقبل عالم ليس بعالمنا…..
كثيراً ما نعلم أننا موجودون حول تطلعات الجانب المشرق، لكننا نحاول التغاضي، ونحاول البحث عما يرضي الذات في لحظات الضعف التي نقيس بها مدى صدق موقفنا، لكن ماذا لو تمادت علينا المواقف…؟
 إن كنا نملك علاقة مع أنفسنا ستخدشها أو تقطع أوصالها، وينأى كل شيء بجسدنا إلى عالم آخر، لنصبح في ضياع وشتات، كل ذلك نتيجة خلل في قناعتنا، فتلك التي تجعلنا نملك الدنيا في لحظات ونضيعها في لحظات، فكل شيء وكل النظريات وكل ما صاغوه يسقط أمام ما يؤمن به المرء من حقائق نابعة من التجارب وليس الاعتقاد، فلنترك الحياة كما تشاء تسير من دون محاولات العبث بما ليس من حقنا المساس به، فلربما يغدر البحر بالسفينة، ونغدر نحن بأنفسنا، فمهما حاولنا أن نغير ونبدل في قوانين الحياة لا نستطيع إن لم نكن ملمين بهدف لنا وبقناعتنا لأن الحياة تبقى حياة وهكذا تأتي دائما …
أخذت الكلمات فعلا تنداح من فمي معلنة استقرارها على أديم هذه الورقة، لا أعرف لماذا؟ وكيف؟.. ولكن أخذ القلمُ مكانه المعهود بين أصابعي.. أخذ يستجدي المِداد ليعلن معه ولادة هذه الكلمات.. كلما رأيت أو طرى لي ذاك المشهد الذي يعاودني بين الحين والآخر، أغلقُ عينيّ لأهيم في عالم غريب لا أدري من يقطنه ومن يقنن معالم الحياة فيه..
هذا المشهد بين الحين والآخر تتضح معالمه، ليجعلني متشبتة بنواياي الحسنة وبصورة تلك العابرة الآتية من مكان قصي، تحمل بين يديها زهرة  ألوانها مزيجٌ من دمٍ وملامح باهثة  لتنبأ روحها بمغيب الذات إلى أبد الآبدين، يستهويني المشي بين الظلال وفوق المروج  ما أن يعلن وقع أقدامها دنوها تبدأ مراسم الاحتفال تضج في صدرها وتبدأ ألسنةُ اللهبِ بالأزيز فالأيام تسري مع زمن دون خشوع.
وفي الرمق الأخير أقرأني كأمسية شعرية و أصحو لأحط من ذاك العالم الغريب، وأنا امرأة تهوى الأحاديث مع بداية كل فجر جديد، وأبدأ بتساؤلاتٍ راودتني كثيرًا هل كان ذاك عجرفـة وطيشا لتتقلص زوايا الانكسار مع الغروب.. فتداويني الأحاديث التي تتموسق بلساني التائه كلما قرأت عني في صفحات التاريخ. .لأشعر بإحساس قلما فارقني بالكبر والعناد لمن أعلن الخضوع والإذلال إن كان الاستسلام لمن نحب خضوعا وإذلالا، أم هول الموقف لم يسمح لي أن أصدق رغم أنه في عالم الخيال… احترتُ كثيرًا ولم أجد جوابا يَشفي الغليل ويُثلج الصدر… قاسمت نفسي في المرة  القادمة لن يتكرر ذاك… وفي كل مرة تعود ويبقى الحال على ما هو عليه فأعزفني أغنية شرقية …

بقلم: هند بومديان

الوسوم , ,

Related posts

Top