ضمن فقرات مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية، والذي ينظمه المركز الدولي لدراسات الفرجة من 26 إلى 30 نونبر2022، تقدم فرقة كانديلاآرت عملها المسرحي “عنكبوت السيرك”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بمارتيل، التابعة لجامعة عبد المالك السعيدي بتطوان، هذا وقد سبق لمسرحية عنكبوت السيرك الفوز بالجائزة الكبرى في المهرجان الجهوي لمسرح الشباب بشفشاون نهاية مارس الماضي، والتأهل إلى المهرجان الوطني لمسرح الشباب المنظم بالرباط من 13 إلى 15 ماي 2022، ممثلة لجهة طنجة تطوان الحسيمة، وفازت بجائزة أحسن تشخيص إناث (الممثلة زينب ولاد غالم)، ورشحت أيضا لجائزة السينوغرافيا.
وبذلك استطاعت مسرحية “عنكبوت السيرك” التوقف عند وباء كورونا ومختلف التأثيرات التي أحدثها على الجانب الاجتماعي والاقتصادي للبشرية، بل تعداه إلى ما هو فني وتعليمي، بل وعم التأثير كل مناحي الحياة، حتى توقفت الأنفاس وضاقت الحياة بما رحبت، فصار لزاما على البشرية في كل أنحاء المعمور التوقف ومساءلة الذات حول مآل الإنسان، لقد تعددت الآراء والاحتمالات، وسادت التكهنات والإشاعات، وكأني بالإنسان يصدح عاليا في كل مكان، وعبر كل الوسائط، ويقول: “أريد أن أفهم كل شيء” عن هذا العدو المتخفي، إنه نداء كائن أضحى مشوها وغريبا، رغم التقدم المهول الذي وصل إليه، فهو بكل بساطة كائن سيزيفي، يحمل صخرته على كتفيه، ويصعد بها في جبل الحياة محاولا الوصول إلى بر الأمان.
لقد ظلت البشرية خلال هذا الوباء تنتظر اللقاحات، متى تصل؟ وهل هي حقا ناجعة؟ من وراء هذا الوباء؟ من المستفيد منه؟ كيف ستتخلص البشرية منه؟ كلها أسئلة عبثية تنتظر من يجيب عنها. لكننا بحاجة لمن يطرح الأسئلة ويحطم صورة الإنسان المتعجرف، الذي زاغ عن الطريق، هذا الأخير عليه أن يؤمن بقدرته وإرادته، وأن يتحكم في مصيره، من خلال تسليط الضوء على ذاته والاغتسال من عيوبه وتقويض طريقة عيشه بمطرقة الشك وطرح الأسئلة.
لقد أسقط الوباء ما تبقى من قيم لدى البشرية لتتباهى بها، فالسباق نحو التبضع بل والتخزين المبالغ فيه، خوفا من المجهول، عمق سلوك الأنانية، وأضحى الإنسان في كل مكان مجنونا، خائفا وتائها. لذلك فقد ساهم الوباء في العودة إلى الروحانيات والأديان، التقرب إلى الله والتصالح مع الذات وإعادة التفكير في مفهوم العائلة والأسرة، وعودة الإنسان إلى الاجتماع واللقاء داخل المنازل، والابتعاد عن الفضاءات العامة والتجمعات، تراجع الشعور بالغربة والبؤس وإحياء شعور الأمل لمواجهة الوباء.
محكي العرض:
وسط غرفة باردة وفارغة من كل شيء، يجد مروض السيرك “با حسن” نفسه وحيدا بين جدران تحد من حركته، بعدما فرض وباء كرونا على البشرية العزلة وعدم المخالطة، مع ارتداء الكمامة وتعقيم اليدين، وسط كل هذه الإجراءات الاحترازية وجد مروض السيرك نفسه وحيدا في غرفته، ووسط المعاناة ومراجعة الذات، يتم شخصنة مكونات الإنسان (الأنا والأنا الأعلى والهو) التي ما هي إلا ثلاث عناصر تكون الإنسان.
وهكذا يستهل العرض فرجته من خلال انشطار الذات إلى ثلاث عناصر، شخصيات بملامح وملابس متشابهة، تتبادل اللوم وتحميل كل طرف مسؤولية الوضع الذي آل إليه مروض السيرك “با حسن”، ثلاث شخصيات في واحد تجد نفسها وحيدة اللهم من عنكبوت تؤنس وحدتها:
• “آه يا صديقتي، كم يسعدني أنك هنا معي في هذه الغرفة. ترى، كم تستغرقين من الوقت لتنسجي حولك كل هذه الخيوط؟ أقصد لتبني لك بيتا؟ لابد أن ذلك يتطلب منك وقتا طويلا وجهدا كبيرا أيضا. بيتك جميل، حقا جميل ومنسوج بعناية فائقة. شيء مدهش، مدهش حقا.”
وللتخفيف من حجم المعاناة، تبادر الشخصيات التي ما هي إلا شخصية واحدة، إلى تعداد صفات العنكبوت وما تتحلى به من قوة وإغراء، تتمكن بواسطتها من النيل من ضحيتها، والتلذذ بها، في المقابل تسرد للعنكبوت خيباتها في الحياة، ومن هذه الخيبات؛ تجربة الحب التي لم تجن منها سوى آلام الضمير.. أمام هذه المعاناة النفسية، يجد “با حسن” نفسه محطما، في غرفته المظلمة يناجي ويتودد إلى عنكبوته التي تتقاسم معه الغرفة تارة، وتارة أخرى يصب جام غضبه عليها، حتى ليكاد أن ينسفها نسفا، لولا طيبوبته التي تمنعه من إيذاء الآخرين.
“ألست خائفة مني؟ أستطيع أن أنسفك نسفا وأمحوك محوا فقط، فقط بأصبعي هذا، أو بنفخة واحدة مني، ولكن اطمئني، اطمئني لن أفعل بك هذا، ليس لأنني بحاجة إليك، أو بحاجة إلى من يؤنسني في وحدتي وعزلتي بهذه الغرفة الباردة، ولكن لأنني رجل طيب، وعطوف، وحنون، وشهم، ولهذا لا يمكنني بتاتا أن أؤذيك، أو حتى أن أجرؤ على التفكير في ذلك.”
هذا الصراع النفسي الذي يتجسد في شعور “با حسن” بالدونية جراء تأنيب الضمير، والاعتداد بالنفس والافتخار بما أحرزه كمروض بارع، وساحر يجعل الناس ينخدعون بمهاراته التي لم تعد تجدي شيئا، بعدما حل الوباء وفرغت الشوارع، وتوقفت الحياة. ولاذ الإنسان بالمنازل هاربا من عدو مجهول، لا سبيل لمواجهته سوى بالتنظيف والتطهير والتعقيم المستمر، في كل وقت وحين. هذا هو السبيل الوحيد لمواجهة هذا العدو، في حرب غير متكافئة لم يستعد لها الانسان.
“ولكن عن أي حرب أتحدث؟ كل الحروب كانت تدق لها الطبول، وتشحد لها الجنود، وتسن لها السيوف، وترفع لها الرايات، إلا هذه الحرب.”
لذلك لم يجد “با حسن” مروض السيرك من مفر سوى اللجوء إلى غرفته المظلمة والباردة، بعيدا عن الناس والجمهور الذي كان يصفق له كلما رفع السوط في وجه أي حيوان ضعيف. وفي محاولة للمصالحة مع الذات ومراجعة لمختلف التصرفات التي كان يقوم بها، يجد “با حسن” نفسه بين مطرقة الواقع وسندان الضمير. ليكتشف في الأخير أن عليه نفض غبار الماضي والعودة إلى الحياة، والسيرك من جديد، بعد أن يتطهر من كل التصرفات السلبية، والأخطاء والذنوب وممارسة النصب والخداع واستغلال جهل الناس، كي يستطيع العودة إلى الحياة الطبيعية فإنه يعيش صراعا داخليا يمنعه في البداية من الإقرار بذنبه والعمل على تطهير ذاته منها..
“ما الذي أنتظره من جلوسي وحيدا بهذه الغرفة الباردة؟ ما الذي أنتظره من عنكبوت عالق بسقف الغرفة؟ ما الذي أنتظره كي أفتح الباب وأخرج إلى الشارع؟ ما الذي أنتظره كي أعود إلى حياة السيرك من جديد؟”
وهكذا يضع عرض “عنكبوت السيرك” حدا لنرجسية الأنا الطاغية، التي تمعن في تعذيب الحيوانات، والنصب وخداع الآخرين، فصنعت لنفسها برجا من ورق سرعان ما تهاوى، أمام وباء كورونا، هذا الأخير الذي كشف عورة الإنسان المعاصر.
بطاقة تقنية:
مسرحية “عنكبوت السيرك” من تأليف: سعاد الوافي، وإخراج:عبد الكريم أبرنوص، تشخيص: زينب اولاد غالم، صلاح المقيلي، أيوب المقدم، الإضاءة: رشيدعبو، سينوغرافيا: كانديلا أرت، المحافظة العامة: سهيلة أجنياح، الموسيقى: علاء الزينبي، التوثيق: لمنير الدراز، إدارة فنية وإشراف: المختارالعسري.
بقلم: المختار العسري