قراءة نقدية: وظيفة التشبيه في قصة «رواد المجهول» للكاتب المغربي الراحل أحمد عبد السلام البقالي

رواد المجهول هو النص الأول بين نصوص المجموعة القصصية «قصص من المغرب» التي أصدرها الكاتب أحمد عبد السلام البقالي وهو بعد طالب في القاهرة.
وهو نص يرصد فيه الكاتب بعض مظاهر الصراع بين جيلين زمن خضوع المغرب للسيطرة الاستعمارية، جيل الأبناء ممثلا في حسن ورفاقه في المسيد، وجيل الآباء كما يعكسه سلوك  سي الغزواني ووالد حسن وآباء الصغار.
يبرز الصراع بين الجيلين داخل المسيد عندما أخذ  الفقيه سي الغزواني يعاقب جماعة من تلاميذه الذين أقلقوا ساكني المدينة بشغبهم وضوضائهم وحروبهم الصغيرة.
وفي غمرة العذاب القاسي الذي كان الفقيه  يصبه عليهم صبا يكتشف سي الغزواني أن رأس أحد المعذبين (حسن) «يكسوه شعر فاحم لماع، صفف بعناية، وشذبه مقص الحلاق بفن وجمال.. ودهنه بالبريانتين والكولونيا».
وأمام هذا السلوك المستحدث زمنئذ وقف سي الغزواني داخل المسيد يكشف عن الرؤوس، ويصيح في كل من يشبه رأسه رأس حسن: «اخرج يا بني.. إنك الآن نجس قذر يجب أن تتطهر، وتستعد لحمل القرآن»، «ثم يصرخ بصوت جنوني: لن أقبل يهودا ولا نصارى.. فقد بنيت المدرسة للمسلمين، للمسلمين فقط ولن يرجع إليها أحد في رأسه شعر أبدا…».
وكانت هذه الصرخة إعلان حرب على هؤلاء الصغار الذين أتوا بعرف يخالف ما عليه أهل المدينة، عرف يدخل، حسب الفهم القاصر للسي الغزواني، في ملة اليهود و النصارى.
ولأن الناس يسترشدون عهدئذ بالفقيه  فقد هب الآباء لتأنيب أبنائهم، وتعذيبهم ليعدلوا عن هذا السلوك  غير المقبول.
وبالرغم من التعذيب الوحشي الذي يتعرض له حسن فإنه يظل صامدا «ويلوذ بالفرار من مدينته أصيلة إلى مدينة طنجة، المفتوحة على الفضاء الأجنبي، ومنها إلى أمريكا، تاركا خلفه الأب والأم والوطن، والقيم القديمة، طبعا، مهمهما بعبارة واحدة وأخيرة وداعا أيتها العبودية!».
إن الصراع بين الجيلين، داخل القصة، مصدره التصادم بين حداثة القيم التي يحملها التلميذ حسن ورفاقه، وجمود الأب والفقيه  ومن على شاكلتهما على تقاليدهم القديمة، واستعدادهم لمناهضة كل ذي قيم حديثة غير مألوفة.
ويبدو من خلال القراءة أن القصة تنتصر للقيم الحديثة التي يدافع عنها حسن وصديقه الوافي. وفي ضوء هذا الانتصار نفهم تصدير الكاتب هذا النص بقوله: يظل نهر التطور يمضي هادئا في موكب الزمان.. حتى تقف في وجهه سدود العادات المتبلدة والتقاليد المتحجرة، فيتجمع ماؤه ويتكتل، حتى يصير قوة هائلة تنشد الانطلاق..، حيث يصف الكاتب العادات والتقاليد بالتحجر والبلادة، وينحي عليها باللائمة لأنها تقف سدودا منيعة في سبيل نهر التطور الذي ينشد الانسياب هادئا دون اصطدام،.
كما يسخر الكاتب تقنيات أخرى لنصرة هذه القيم منها الوصف، ويقصد هنا وصف الفقيه  سي الغزواني بأوصاف منها أنه «يمثل المحافظ المتطرف أدق تمثيل».
ولعل أهم تلك التقنيات، كما يبدو لي، تقنية التشبيه التي يتفرغ هذا المقال لدراستها فيما بقي من سطوره.
إن الناظر في (رواد المجهول) تثيره كثرة التشبيهات فيها باعتبارها وسيلة من وسائل التصوير الفني داخل المجموعة القصصية كلها.
وجدير بالذكر أن هذه التشبيهات، وهذه الصور الفنية داخل المجموعة، لا يوردها الكاتب للزينة فحسب، ولكنها عنصر رئيسٌ داخل هذا العمل، يرمي الكاتب من إيراده إلى التأثير في نفسية القارئ، وشده إلى عالم النص، وحفزه على اتخاذ مواقف معينة من الوقائع -ومن الواقع- إيجابا أو سلبا. الصورة الفنية -والتشبيه أحد عناصرها- لا تنحصر مهمتها في تجلية المعاني وبيانها، إنها «تحرك المشاعر، وتثير الأحاسيس، وتدفع إلى الإعجاب، وتسعد النفس وتبهجها، أو تجرها إلى الحزن والأسى»، ولنقرأ -مثلا- هذا المقطع من القصة: «وبعد فترة سمعت الأم وقع حبل غليظ على ظهر ابنها، وأنينا مزعجا، ثم صراخا حادا يمتزج بقرقعة السلاسل، وصليل الحديد، ووهن الصوت بعد حين، حتى صار أنينا مكتوما، ثم انقطع الضرب ونزل الرجل يلهث كالكلب في الهجيرة، وطلعت الأم تنهب درجات السلم، وصعد من خلفها بناتها، فوجدن الفتى ملقى على الأرض العراء، فاقد الوعي، والدم يكسو وجهه ورأسه، ويملأ عينيه وأذنيه ويتسرب على عنقه إلى صدره، فانكبت الأم عليه تبكي وتنوح بصوت عال، تندب فيه وتعدد.. وبكت الأخوات كأنما هن في مأتم».  
يسكن داخل هذا المقطع القصصي تشبيهان هما (يلهث كالكلب) و(كأنما هن في مأتم).
يصور الكاتب في أول التشبيهين الأبوة القاسية في صورة كلب يلهث. وإذا استحضرنا صورة الكلب لدى العرب المسلمين، والنص موجه إليهم، حيث يغسل الإناء الذي يلغ فيه سبع مرات، أدركنا مقدار درن هذا الحيوان، وأدركنا -أيضا- حجم النفور الذي يتولد في النفوس منه ومن كل شبيه به.
إن هذا الاقتران، في ذهن القارئ للعبارة «يلهث كالكلب»، بين الأب/الإنسان والكلب/الحيوان ليدفع إلى احتقار هذا الأب وكرهه للشبه الحاصل بينه وبين الكلب، فالغرض من هذا التشبيه  إذن هو تقبيح المشبه (الأب).
هكذا ندرك كيف يؤثر هذا التشبيه، أو كيف أريد له أن يؤثر، في المتلقي بأن يحرك مشاعر البغض فيه فيصبها على الأب (والد حسن) المدافع عن القيم والتقاليد البالية.
وفي مقابل هذه الصورة ينهض التشبيه الثاني «كأنما هن في مأتم» ليصور حال الأسرة، بعد نزول الأب لاهثا كالكلب، في صورة تجمع جنائزي وهي تنوح على الفتى حسن الملقى في دمه كأنه قتيل، وهو مشهد يثير في النفس مشاعر الأسى والحزن على الضحية، والبكاء عليه، والتعاطف معه.
إن التقابل بين الصورتين يستدعي مشاعر متناقضة من المتلقي تتوزع بين الغضب الآنف ذكره والرحمة المستجداة لهذا الفتى المظلوم الذي كل جريرته أنه حلق شعر رأسه حلاقة لا عهد لقومه بمثلها.
وفي هذا السياق أعتقد -بعد جرد أغلب التشبيهات الواردة في النص- أن كثيرا من التشبيهات ترمي إلى حمل القارئ على التعاطف مع حسن ورفاقه، ولذلك يظهر حسن «كالكسيح»، و»كمن أصيب بطعنة في ظهره»، و»كالمحكوم عليه بالإعدام»، و»كأنما هو في طريقه إلى المشنقة»، و»كمن يلفظ أنفاسه».. وعلى النقيض من ذلك تشبيه والد حسن بالكلب في الهجيرة، وبالبعير، وبالبعير المهتاج، وتقزيم صورته في عيني ولده حسن «حتى كأنما ينظر إليها في قعر كأس»، أو «كأنها ذبابة».
وهذا التضاد بين الصور المرتبطة بحسن والصور المتصلة بوالده، واغتراف الأولى من حقل المأساة والحزن، ورسوخ الثانية في الحيوانية، وَكْدُه حفز القارئ لنبذ قيم الماضي الجامدة المتجسدة في سلوك الأب واعتناق القيم الحديثة التي ظهرت مع حسن ورفاقه في المسيد.ولعل ما أورده هذا المقال من تشبيهات يؤكد ما ذكر آنفا من كون هذا العنصر البلاغي لا يرد في القصة للزينة والزخرف، ولكنه عمدة في هذا العمل يساهم في تشكيل معانيه، مثلما يساهم في توجيه القارئ، ويستبطن آراء المؤلف فينأى بها عن العري والمباشرة والسقوط في الوعظ.
وعندي أن هذا النأي عن الخطاب التحريضي المباشر والرهان على فنية الأداء وجماله هو ما حدا ببعض
النقاد إلى عد المجموعة (قصص من المغرب) «تمثل شبه انكفاء مرضي على الذات الاجتماعية يتمثل في موقف هروبي يغرق في الماضي الغارق في الخرافة والأباطيل، ويدغدغ الحاضر ويسالمه… وأن هذا إنما يبرهن غياب الوعي الاجتماعي السليم في كيفية تسخير العمل الأدبي لممارسة النضال في ظرف كان يتطلب ذلك».
والحق أن ما رصده المؤلف أحمد عبد السلام البقالي من عيوب لا يشكل انكفاء مرضيا على الذات الاجتماعية، ولكنه، في تقديري، موقف يستند إلى كون هذا النقد الذاتي جزءا من النضال المتحدث عنه، وهو موقف ينبع من قناعة مفادها أن نقد الذات وإصلاحها ينبغي أن يسبق طرد المستعمر، بل إنه سبيل إليه؛ لأن في نقد الذات وإصلاحها توليدا للقابلية للاستقلال، و»تحرير البلاد يشترط أن يكون مسبوقا بتحرير الأفكار والعواطف، حتى تجد الحرية فضاء مناسبا للنماء والتألق»، وحتى لا يكون هذا التحرير صوريا لا حظ له في قلوب الناس وعقولهم.

Top